الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا **
واعلم أن تضمين الكلام بعض آي القرآن الكريم ينقسم عند أهل البلاغة إلى قسمين: أحدهما: الاستشهاد بالقرآن الكريم وهو أقلهما وقوعاً في الكلام ودوراناً في الاستعمال: وهو أن يضمن الكلام شيئاً من القرآن الكريم وينبه عليه مثل قول الحريري في مقاماته: فقلت وأنت أصدق القائلين وقول أبي إسحاق في عهد لملك عن خليفة بعد الأمر بالتقوى والحث عليها: فإذا اطلع الله منه على نقاء حبيبه وطهارة ذيله وصحة مروءته واستقامة سيرته أعانه على حفظ ما استحفظه وأنهضه بثقل ما حمله وجعل له مخلصاً من الشبهة ومخرجاً من الحيرة. فقد قال الله تعالى: وله ولأمثاله يقول الله عز وجل ومن ذلك قول علاء الدين بن غانم من خطبة قدمة كتب بها لمظفر الدين موسى بن أقوش وقد صرع لغلغة وادعى بها للملك المؤيد صاحب حماه: نحمده على توفيقه الذي ساد به من ساد وسما وأصاب بتفويقه بمعونة ربه طير السما فحسن أن يتلى ومن ذلك قولي في المقامة التي أنشأتها في كتابة الإنشاء في الكلام على فضل الكتابة: فقد نطق القرآن الكريم بفضلها وجاءت السنة الغراء بتقديم أهلها فقال جل ثناؤه وتقدست أسماؤه ومن ذلك قولي في المقامة التي أنشأتها في كتابة الإنشاء في الكلام على فضل الكتابة: فقد نطق القرآن الكريم بفضلها وجاءت السنة الغراء بتقديم أهلها فقال جل ثناؤه وتقدست أسماؤه وقال جلت عظمته وقولي من هذه المقامة في التعبير عن المقر البدري بن فضل الله. قلت حسبك قد دلني عليه عرفه وأرشدني إليه وصفه وبان لي محتده الفاخر وحسبه الصميم وعرفت أصله الزاكي وفرعه الكريم وقولي في اختتام هذه المقامة معبراً عن المقر البدري المشار إليه: فلما تحققت أني قد أثبت في ديوانه وكنت من جملة غلمانه رجعت القهقري عن طلب الكسب وتساوى عندي المحل والخصب فاستغنيت بنظري إليه عن الطعام والشراب وتحققت أن نظرة منه ترقيني إلى السحاب وتلوث بلسان الصدق على الملإ وهم يسمعون " قل بفضل الله وبرحمته فبذلك وقولي في بيعة خليفة أنشأنها بعد ذكر تحليف أهل البيعة: وأشهدوا عليهم بذلك من حضر مجلس العقد من الأئمة الأعلام والشهود والحكام وجعلوا الله على ما يقولون وكيلاً فاستحق عليهم الوفاء بقوله تعالى وهم يرغبون إلى الله تعالى أن يضاعف لهم بحسن نيتهم الأجور ويلجأون إليه أن يجعل أئمتهم ممن أشار تعالى إليه بقوله: وقولي في بيعة أخرى: واله يجعل أنتقالهم من أدنى إلى أعلى ومن يسرى إلى يمنى ويحقق لهم بمن استخلفه عليهم وعده الصادق بقوله تعالى الثاني: الاقتباس وهو أن يضمن الكلام شيئاً من القرآن ولا ينبه عليه: كقوله في خطبة التعريف: نحمده على فواضل زادت محاسن العلوم وعرفت تفاوت درجات الأولياء إذ قالوا وقوله بعد ذلك: وسماء الشبيبة بضحى المشيب قد تجلت والنفس قد وقوله ابن نباتة السعدي في بعض حطبه: فيا أيها الغفلة المطرقون! أما أنتم بهذا الحديث مصدقون ما لكم لا تسمعون! ويوم تكونوا وقول غيره: أتظنون أنكم دون غيركم مخلدون وقول الحريري: فلم يكن إلا حتى أنشد فأعرب. وقوله: وأميز صحيح القول من عليله. وقول ضياء الدين بن الأثير في فصل من كتاب في مدح الجود وذم البخل: وقد علم أن المال الذي يختزن كالماء الذي يحتقن فكما أن هذا يأجن بتعطيل الأيدي عن امتياح مشاربه. فكذلك يأجن هذا بتعطيل الأيدي عن امتناع مواهبه. و أي فرق بين وجوده وعدمه لولا أن تملك به القلوب. وتفل به الخطوب. ويركب به ظهر العزم الذي ليس بركوب ومن بسط يده فيه ثم قبضها بخله فإنه يقف دون الرجال مغموراً ويقعد عن نيل المعالي محسوراً. وإذا أدركته منيته مضى وكأنه لم يكن شيئاً مذكوراً. وقوله في وصف كاتب: له بنت فكر ما تمخضت بمعنى إلا نتجته من غير ما تمهله. ولم تعرض على ملإ من البلغاء إلا ألقوا أقلامهم أيهم يستعيره لا أيهم يكفله. وقول الشيخ شهاب الدين محمود الحبي من عهد السلطان: وجمع بك شمل الأمة بعد أن وكفاه بالنصر على الأعداء التوغل في سفك الدماء وقوله في خطبة صداق في وصف نكاح: وأحيا به الأمم وقد قضى دينهم. وجمع بين متفرقين وقوله من توقيع بإمامة صلاة: وليعلم أنه في المحراب مناجياً لربه واقفاً بين يدي من يحول بين المرء وقلبه. وقولي في خطبة هذا الكتاب في الإشارة إلى فتح الديار المصرية: فتوجهت إليها عزائم الصحابة زمن الفاروق فجاسوا خلال الديار وعرها وسهلها واقتطعتها أيدي المسلمين من الكفار وكانوا وأتيت البيوت من أبوابها. وقولي فيها: قلت قد بانت لي علومها. فما رسومها قال إن أعباءها لباهظة حملاً. وإنها لكبيرة إلا. ولكن سأحدث لك ذكراً وأنبئك بما تحط به خبراً. وقولي في المفاخرة بين السيف والقلم في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين قامت بنصرتهم دولة الإسلام فسمت بهم على سائر الدول وكرعت في دماء الكفر سيوفهم فعادت بخلوق النصر لا بحمرة الخجل. صلاة ينقضي دون انقضائها تعاقب الأيام. وتكل ألسنة الأقلام عن وصفها وربما اقتصر على التلويح والإشارة خاصة: كقول القاضي الفاضل فيما كتب به عن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب إلى الديوان العزيز ببغداد في الاستصراخ وتهويل أمر الفرنج: وقول ضياء الدين بن الأثير في وصف غبار الحرب: وعقد العجاج سقفاً فانعقد. وأرانا كيف رفع السماء بغير عمد. غير أنها سماء بنيت بسنابك الجياد. وزينت بنجوم الصعاد. ففيها ما يوعد من المنايا لا ما يوعد من الأرزاق. ومنها تقذف شياطين الحرب لا شياطين الاستراق. قال والوزير ضياء الدين بن الأثير رحمه الله: والطريق في استنباط المعاني من القرآن الكريم واستعمال الآيات في خلال الكلام أن تعمد إلى سورة من القرآن وتأخذ في تلاوتها وكلما مر بك معنى أثبته في ورقة مفردة حتى تنتهي إلى آخرها ثم تأخذ في استعمال تلك المعاني التي ظهرت وإدخالها في خلال الكلام وكلما عاودت التلاوة وكررتها ظهر لك من المعاني ما لم يظهر لك في المرة التي قبلها. ولتعلم أن الآية الواحدة قد تقع في الاستعمال على عدة وجوه يورده الناثر في معنى ثم ينقله لمعنى آخر غيره كما فعل ضياء الدين بن الأثير في قوله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام فقال في دعاء كتاب: وصل كتاب من الحضرة السامية أحسن الله أثرها وأعلى خطرها وقضى من العلياء وطرها وأظهر على يدها آيات المكارم وسورها وأسجد لها كواكب السيادة وشمسها وقمرها. ثم أبرزه في معنى آخر فقال: أكرم النعم ما كان فيه ذكرى للعابدين. وتقدمه إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين. فهذه النعمة هي التي تأتي بتيسير العسير. وتجلوا ظلمة الخطب بإيضاح المنير. فانظر إلى أثر رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كشل شيء قدير. ثم نقله إلى معنى آخر فقال من تقليد يكتب من ديوان الخلافة لبعض الوزراء: وقد علم أن أمير المؤمنين أدنى مجلسه من سمائه وآنسه على وحدة الانفراد بحفل نعمائه. ورفعه حتى ودت الشمس لو كانت من أترابه والقمر لو كان من ندمائه. وذلك مقام لا تستطيع الجدود أن ترقى إلى رتبته. ولا الآمال أن تطوف حول كعبته ولا الشفاه أن تتشرف بتقبيل تربته. فليزدد إعجاباً بما نالته من مواطئ أقدامه ولينظر إلى سجود الكواكب له في يقظته لا في منامه. قال في حسن التوسل: والناس في استخراج المعاني من القرآن الكريم واستعمالها في الكلام على قدر طبقاتهم وتفاوت درجاتهم. فمفرط في الحسن ومفرط وفوق كل ذي علم عليم. قلت: وكما يحتاج الكاتب إلى حفظ كتاب الله تعالى والعلم بتفسيره ليقتبس من معانيه كذلك يحتاج إلى معرفة العلوم المختصة به كالعلم بالقراءات السبع والشواذ ومعرفة رجالها ومن اشتهر منه وعرف بجودة القراءات السبع والشواذ ومعرفة رجالها ومن اشتهر منهم وعرف بجودة القراءة ومعرفة أعيان المفسرين ورؤوسهم ليماثل بأفاضلهم ويقايس بأعيانهم في خلال ما يعرض له من الكلام مطابقاً لذلك كما قال في التعريف في وصية مقرئ في القسم الثالث من الكتاب: وليدم على ما هو عليه من تلاوة القرآن فإنه مصباح قلبه. وصلاح قربه وصباح القبول المؤذن له برضا ربه وليجعل سوره له أسواراً وآياته تظهر بين عينيه أنواراً. وليتل القرآن بحروفه وإذا قرأ استعاذ وليجمع طرقه وهي التي عليها الجمهور ويترك الشواذ. ولا يرتد دون غاية لإقصار ولا يقف فبعد أن أتم لم يبق بحمد الله إحصار وليتوسع في مذاهبه ولا يخرج عن قراءة القراء السبعة أئمة الأمصار وليبذل للطلبة الرغاب وليشبع فإن ذوي النهمة سغاب: ولير الناس ما وهبه اله من الاقتدار فإنه احتضن السبع ودخل الغاب وليتم مباني ما أتم ابن عامر وأبو عمرو له التعمير ولفه الكسائي في كساه ولم يقل جدي ابن كثير وحم به لحمزة أن يعود ذاهب الزمان وعرف أنه لا عاصم من أمر الله يلجأ معه إليه وهو الطوفان وتدفق يتفجر علماً وقد وقفت السيول الدوافع وضر أكثر قراء الزمان لعدم تفهيمهم وهو نافع وليقبل على ذوي الإقبال على الطلب وليأخذهم بالتربية فما منهم إلا من هو نافع وليقبل على ذوي الإقبال على الطلب وليأخذهم بالتربية فما منهم إلا من هو إليه قد انتسب. وهو يعلم ما من الله عليه بحفظ كتابه العزيز من النعماء ووصل سببه منه بحبل الله الممتد من الأرض إلى السماء. فليقدر حق هذه النعمة بحسن إقباله على التعليم والإنصاف إذا سئل فعلم الله لا يتناهى وفوق كل ذي علم عليم.
قال في حسن التوسل: لا بد للكاتب من حفظ الكثير من الأحاديث النبوية والآثار المروية عن الصحابة رضوان الله عليهم وخصوصاً في السير والمغازي والأحكام وتأمل فصاحتها والنظر في معرفة معانيها وغريبها وفقه ما لا بد م معرفته من أحكامها لينفق منها على سعة ويستشهد بكل شيء في موضعه ويحتج بمكان الحجة ويستدل بموضع الدليل ويتصرف عن علم بموضوع اللفظ ومعناه ويبني كلامه على المقصد إذا استند إلى النص قويت فيه الحجة وسلم له الخصم وأذعن له المعاند والفصاحة والبلاغة إذا طلبت غايتها فإنها بعد كتاب الله في كلام من أوتي جوامع الكلم وقال: أنا أفصح من نطق بالضاد. وقد كان الصدر الأول من الصحابة والتابعيين رضي البله عنهم يحتجون بالحديث ويستدلون به في مواطن الخلاف والنزاع فينقاد الجموح يستسهل الصعب وقد رجع الأنصار يوم السقيفة إلى حديث الأئمة من قريش حيث رواه لهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأذعنوا له وبايعوه بعد ما اجتمعوا إلى سعد بن عبادة وقالوا: منا أمير ومنكم أمير. على ما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله. ورجع عمر رضي الله عنه لحديث النهي عن دخول بلد الطاعون فعاد إلى المدينة بعد أن قارب الشام حين بلغه أن به الطاعون. وقال علي رضي الله عنه في حق الأنصار: لو زالوا لزلت معهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أزول معكم حيث ما زلتم. ثم الذي أشار إليه ابن قتيبة في أدب الكاتب أن الأحاديث التي نيبغي للكاتب حفظها الأحاديث المتعلقة بالفقه وأحكامه: كقوله صلى الله عليه وسلم: " البينة على المدعي. واليمين على المدعى عليه. والخراج بالضمان. وجرح العجماء جبار. ولا يغلق الرهن. والمنحة مردودة. والعارية مؤداة. والزعيم غارم. ولا وصية لوارث. ولا قطع في ثمر ولا كثر. ولا قود إلا بحديدة. والمرأة تعاقل الرجل إلى ثلث ديتها. ولا تعقل العاقلة عمداً ولا عبداً ولا صلحاً ولا اعترافاً. ولا طلاق في إغلاق والبيعان بالخيار ما لم يتفرقا. والجار أحق بصقبه. والطلاق بالرجال والعدة بالنساء. وكنهية في البيوع عن المخابرة والمحاقلة والمزابنة والمعاومة والثنيا وعن ربح ما لم يضمن وعن بيع ما لم يقبض وعن بيعتين في بيعة وعن شرطين في بيع وعن بيع وسلف وعن بيع الغرر وبيع المواصفة وعن الكاليء بالكاليء وعن تلقي الركبان وما أشبه ذلك ليغتني بحفظها وتدبر معانيها عن إطالات الفقهاء ". قلت: والحقيق أن حاجة الكاتب لا تختص بأحاديث الأحكام ودلائل الفقه بل تتعلق بما هو أعم من ذلك خصوصاَ الحكم والأمثال والسير وما أشبه ذلك مما يكثر الاستشهاد به في الكتابة والاقتباس من معانيه. قال في المثل السائرة: وينبغي أن يكون أول ما يحفظه من الأخبار ما تضمنه كتاب الشهاب في المواعظ والآداب للقضاعي فإنه كتاب مختصر وجميع ما فيه يستعمل لأنه يتضمن حكماً وآداباً فإذا حفظته وتدربت باستعماله حصل عندك قوة على التصرف والمعرفة بما يدخل في الاستعمال وما لا يدخل وعند ذلك تتصفح كتاب صحيح البخاري ومسلم والموطأ والترمذي وسنن أبي داود وسنن النسائي وغيرها من كتب الحديث وتأخذ ما تحتاج إليه وأهل مكة أخبر بشعابها. قال: والذي تأخذه إن أمكنك درسه وحفظه فهو المراد لأن ما لا تحفظه فلست منه على ثقة وإن كان لك محفوظات كثيرة: كالقرآن الكريم ودواوين كثيرة من الشعر وما ورد من الأمثال السائرة وغير ذلك مما تقدمت الإشارة إليه وما يأتي ذكره فعليك بمداومة المطالعة للأخبار والإكثار من استعمالها في كلامك حتى ترتقم على خاطرك فتكون إذا احتجت منها إلى شيء وجدته وسهل عليك أن تأتي به ارتجالاً فتأمل ذلك واعمل به. ثم قال: وكنت جردت من الأخبار النبوية كتاباً يشتمل على ثلاثة آلاف خبر تدخل كلها في الاستعمال وما زلت أواظب مطالعته مدة تزيد على عشر سنين فكنت أنهي مطالعته في كل أسبوع مرة حتى دار على ناظري وخاطري ما يزيد على خمسمائة مرة وصار محفوظاً لا يشد منه عني شيء. قال الوزير ضياء الدين بن الأثير واعلم أن أكثر الأحاديث تدخل في الاستعمال و لا يخرج عنه إلا القليل النادر ولقد دار بيني وبين بعض علماء الأدب في هذا الأسلوب كلام فاستوعره واستنكره وقال: هذا لا يتهيأ إلا في الشيء اليسسير من الأخبار النبوية. - فقلت لا بل يتهيأ في الأكثر منها - فقال قد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: " أنه اختصم إليه فغي جنين فقضى على من أسقطه بغرة عبد أو أمة " فأين تستعمل هذا فأفكرت فيما ذكره ثم أنشأت هذا الفصل من الكلام وأودعته فيه وهو: قد كثر الجهل حتى لا يقال فلان عالم وفلان جاهل. وضرب المثل بباقل وكم في هذه الصورة الممثلة من باقل ولو عرف كل إنسان قدره لما مشى بدن إلا تحت رأسه ولا انتصب رأس إلا على بدنه ولكان صاحب العمامة أحق بعمامته وصاحب الرسن أحق برسنه. وكنت سمعت بكاتب من الكتاب كلمه إلى غثائة لا يستنسر وأي بطش لبغاثة. وإذا وجب الوضوء على غيره بالخارج من السبيلين وجب عليه من سبل ثلاثة. هذا وهو يدعي أنه في الفصاحة أمة وحده ومن قس إياد أو سحبان وائل عنده وإذا كشف خاطره وجد بليداً لا يخرج عن العمه والكمه وإن رام أن يستنتجه في حين من الأحيان قضى عليه بغرة عبد أو أمة وكثيراً ما يتقدم ونقيصته هذه على الأفاضل من العلماء وقد صار الناس إلى زمان يعلو فيه حضيض الأرض على هام السماء. فلما أوردته عليه ظهرت ثم قال: وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الحديث " وهو لا تدخل الملائكة بيتاً فيه صورة ولا تمثال ". فهذا أين يستعمل من المكاتبات فترويت في قوله تروياً يسيراً ثم قلت: هذا يستعمل في كتاب إلى ديوان الخلافة وأمليت عليه الكتاب فجاء هذا الحديث في فصل منه وهو: " إذا أفاض الخادم في وصف ولاته نكصت همم الأولياء عن مقامه وعلموا أنه أخذ الأمر بزمامه فقد أصبح وليس بقلبه سوى الولاء والإيمان فهذا يظهر أثره في طاعة السر وهذا في طاعة الإعلان وما عداهما فإن دخوله إلى قلبه من الأشياء المحظورة والملائكة لا تدخل بيتاً فيه تمثال ولا صورة فليعول الديوان العزيز منه على سيف من سيوف الله يفري بلا ضارب ويسري بلا حامل ولا يسل إلا بيد حق ولا يغمد إلا في ظهر باطل. وليعلم أن كرشه وعيبته في تضمين الأسرار وأنه أحد سعديه إذا عدت مواقف الأنصار ". فلما رأى هذا الفصل بهت له وعجب منه. قال: ولم أقنع بإيراد الحديث الذي ذكر حتى أضفت إليه حديثاً آخر وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: " الأنصار كرشي وعيبتي ". ثم تضمين الكلام شيئاً من الأحاديث على ما تقدم في القرآن الكريم فينقسم إلى الاستشهاد والاقتباس على ما تقدم. فأما الاستشهاد فهو أن يضمن الكلام شيئاً من الحديث وينبه عليه: كقول أبي إسحاق الصابي في وصية عهد من خليفة السلطان: وأن يقوم بما يعقده الرجل نم عرض المسلمين فإن ذمته ذمة جميع المؤمنين وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " المسلمون يسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم ". وكما كتب بعض الكتاب في صدر كتاب لديوان الخلافة: والحمد لله على أن صار إلى أمير المؤمنين ميراث الطاهرين من آبائه وخصه بما حاز له العباس رضوان الله عليه " ألا أبشرك يا عم! بي ختمت النبوة وبولدك تختم الخلافة " وكقوله من عهد آخر: وأمره أن يضع الرصد على من يختار في الحمالة من أباق العبيد والاحتياط عليهم وعلى ما يكون معهم إلى أن قال: وأن يعرفوا اللقط ويتبعوا أثرها ويشيعوا خبرها فإذا حضر صاحبها وعلم أنه مستوجبها سلمت إليه ولم يعترض فيها عليه. والله جل وعز يقول: ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ضألة المؤمن حرق النار " إلى غير ذلك من الاستشهادات. وأما الاقتباسات فهو أن يضمن الكلام شيئاً من الحديث ولا ينبه عليه. فمن ذلك ما ذكره الحريري في مقاماته من قوله: وكتمان الفقر زهاده وانتظار الفرج بالصبر عباده. وقوله: شاهت الوجوه وقبح الهكع ون يرجوه. فمن ذلك قوله في دعاء كتاب: " أعاذ الله أيامه من الغير وبين بخطر مجده نقص كل خطر. وجعل ذكره زاداً لكل ركب وأنساً لكل سمر. ومنحه من فضله ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. أخذ ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم في وصف نعيم الجنة " فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ". فنقله إلى الدعاء. ومن ذلك ما ذكره في النصر على العدو في مواطن القتال وهو أخذ بسنة رسول الله في النصر الذي نرجوه ونبذنا في وجه العدو كفاً من التراب وقلنا شاهت الوجوه فثبت الله ما تزلزل من أقدامنا وأقدم حيزوم فأغنى عن إقدامنا. أخذا المعنى الأول من حديث غزوة حنين وأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ قبضة من التراب وألقى بها في وجوه الكفار وقال: " شاهت الوجوه " وأخذ المعنى الثاني من حديث غزوة بدر: وذلك أن رجلاً من المسلمين لاقى رجلاً من المشركين وأراد أن يضربه فخر على الأرض ميتاً قبل أن يصل إليه وسمع الرجل المسلم صوتاً من فوقه وهو يقول أقدم حيزوم فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: " ذلك من مدد السماء الثالثة ". ومن ذلك ما ذكره في ضيق مجال الحرب وهو: وضاق الضرب بين الفريقين حتى اتصلت مواقع البيض الذكور وتصافحت الغرر بالغرر والصدور بالصدور. واستظل حينئذ بالسيوف لاشتباك مجالها وتبوئت مقاعد الجنة التي هي تحت ظلالها. أخذ ذلك من قول النبي صلى الله عليه وسلم " الجنة تحت ظلال السيوف ". ومن ذلك ما ذكره في وصف بعض البلاد الوخمة وهو: ومن صفاتها أنها مدرة مستوبلة الطينة مجموع لها بين حر مكة ولأواء المدينة. إلا أنها لم يؤمن حرها من الخطفة ولا نقلت حماها إلى الجحفة. أخذ المعنى الأول من قوله صلى الله عليه وسلم: " من صبر على حر مكة ولأواء المدينة ضمنت له على الله الجنة ". والمعنى الثاني من قوله صلى الله عليه وسلم في دعائه للمدينة: اللهم حببها إلينا كما حببت إلينا مكة وانقل حماها إلى الجحفة " ورشح ذلك بمعنى قوله تعالى: ومن ذلك ما ذكره في وصف كريم وهو: فأغنى بجوده إغناء المطر وسما إلى المعالي سمو الشمس وسار في منازلها مسير القمر. ونتج من أبكار فضائله. ما إذا ادعاه غيره قيل للعاهر الحجر. أخذ ذلك من قول النبي صلى الله عليه وسلم " الولد للفراش وللعاهر الحجر ". إلى غير ذلك من مقتبساته المستكثرة واستنباطاته التي هي غير قاصرة ولا مستنكرة. ومن ذلك ما ذكرته أنا في المفاخرة بين السيف والقلم وهو: وبدأ القلم فتكلم ومضى في الكلام بصدق عزم فما توقف ولا تلعثم فقال باسم الله تعالى أستفتح وبحمده أتيمن وأستنجح إذ من شأني الكتابة ومن فني الخطابة وكل أمر ذي بال لا يبدأ فيه باسم الله تعالى فهو أجذم وكل كلام لا يفتتح بحمد الله فأساسه غير محكم. أخذت ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم " كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه باسم الله أو بحمد الله فهو أجذم ". على اختلاف الرواية في ذلك. واعلم أنه كما يحتاج الكاتب إلى حفظ الأحاديث والآثار بطريق الذات للاستشهاد بها والاقتباس من معانيها على ما تقدم بيانه كذلك يحتاج إلى المعرفة بأنواع الحديث وأقسامها: كالصحيح والحسن والمرسل والمرفوع والمسند والمتصل والمنقطع ونحو ذلك. وكذلك المعرفة بأسماء الرجال والمشاهير من المحدثين: كالبخاري ومسلم وأبي داود والنسائي وغيرهم: ليورد ما يحتاج إليه من ذلك في غضون كلامه عند احتياجه إليه في كتابة ما يتعلق بذلك من توقيع محدث ونحوه كما قال في التعريف في وصية لمحدث في قسم الوصايا من الكتاب وقد أصبح بالسنة النبوية مضطلعاً وعلى ما جمعه طرق أهل الحديث مطلعاً وصح الصحيح أن حديثه الحسن وأن المرسل منه في الطلب مقطوع عنه كل ذي لسن. وأن مسنده هو المأخوذ عن العوالي وسماعه هو المرقص منه طول الليالي. وأن مثله لا يوجد في نسبه المعرق. ولا يعرف مقدار طلب الطالب فإنه طال ما شد له النطاق وسعى له سعيه وتجشم المشاق. ورحل له يشتد به حرصه والمطايا مزمومه ويبهه له طلبه والجفون مقفلة والعيون مهمومه. ووقف على الأبواب لا يضجره طول الوقوف حتى يؤذن له في ولوجها وقعد القرفصاء في المجالس لا تضيق به فروجها. فليعامل الطلبة إذا أتوه للفائدة معاملة من جرب وليبسط للأقرباء منهم ويؤنس الغرباء فما هو إلا ممن طلب آونة من قريب وآونة تغرب. وليسفر لهم صباح قصده عن النجاح وليفتق لهم منه عقوده الصحاح وليوضح لهم الحديث وليرح خواطرهم بتقريبه ما كان يسار إليه السير الحثيث وليؤتهم مما وسع الله عليه فيه المجال ويعلمهم ما يجب تعليمه من المتون والرجال ويبصرهم بمواقع الجرح والتعديل والتوجيه والتعليل والصحيح والمعتل الذي تتناثر أعضاؤه سقماً كالعليل. وغير ذلك مما لرجال هذا الشأن به عناية وما ينقب فيه عن دراية أو يقنع فيه بمجرد رواية. ومثله ما يزاد حلماً ولا يعرف بمن رخص في حديث موضوع أو كتم علماً. وسيأتي ذكر هذه الوصية في موضعها إن شاء الله تعالى: وكما قال الشيخ جمال الدين بن نباتة من جملة توقيع لبعض مدرسي الشام: ولأنه الحافظ الذي أحيا ذكر ابن نقطة بعد ما دارت عليه الدوائر وأغنى وحده دمشق عمن أتى في النسب بعساكر. الإكثار من حفظ خطب البلغاء والتفنن في أساليب الخطباء وفيه مقصدان المقصد الأول في وجه احتياج الكاتب إلى ذلك قال أبو جعفر النحاس: وهي من آكد ما يحتاج إليه الكاتب وذلك أن الخطب من مستودعات سر البلاغة ومجامع الحكم بها تفاخرت العرب في مشاهدهم وبها نطقت الخلفاء والأمراء على منابرهم بها يتميز الكلام وبها يخاطب الخاص والعام وعلى منوال الخطابة نسجت الكتابة وعلى طريق الخطباء. مشئت الكتاب وقد قال أبو هلال العسكري رحمه الله في الصناعتين: والرسائل والخطب متشاكلتان في أنهما كلام لا يلحقه وزن ولا تفقيه وقد يتشاكلان أيضاً من جهة الألفاظ الخطب تشبه ألفاظ الكتاب في السهولة والعذوبة وكذلك فواصل الخطب مثل فواصل الرسائل. قال: والفرق بينهما أن الخطبة يشافه بها بخلاف الرسالة والرسالة تجعل خطبة والخطبة تجعل رسالة في أيسر كلفة. واعلم أنه كان للعرب بالخطب والنثر غاية الاعتناء حتى قال صاحب الريحان والريعان: إن ما تكلمت به العرب من أهل المدر والوبر من جيد المنثور ومزدوج الكلام أكثر مما تكلمت به من الموزون إلا أنه لم يحفظ من المنثور عشره ولا ضاع من الموزون عشره لأن الخطيب إنما كان يخطب في المقام الذي يقوم فيه في مشافهة الملوك أو الحالات أو الإصلاح بين العشائر أو خطبة النكاح فإذا انقضى المقام حفظه من حفظه ونسيه من نسيه. بخلاف الشعر فإنه لا يضيع منه بيت واحد. قال: ولولا أن خطبة قس ابن ساعدة كان سندها مما يتنافسه الأنام وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي رواها عنه فأطار ذكرها ما تميزت عما سواها. قلت: وليس ما أشار إليه لرفض النثر عندهم وقلة اعتنائهم به بل لسهولة حفظ الشعر وشيوعه في حاضرهم وباديهم وخاصهم وعامهم بخلاف الخطابة فإنه لم يتعاطها منهم إلا القليل النادر من الفصحاء المصاقع: فلذلك عز حفظها وقل عنهم نقلها. وقد كانت تقوم بها في الجاهلية سادات العرب ورؤساؤهم ممن فاز بقدح القصل وسبق إلى ذرى المجد ويخصون ذلك بالمواقف الكرام والمشاهد العظام والمجالس الكريمة والمجامع الحفيلة فيقوم الخطيب في قومه فيحمد الله ويثني عليه ثم يذكر ما سنح له من مطابق قصده وموافق طلبه: من وعظ يذكر أو فخر أو إصلاح أو نكاح أو غير ذلك مما يقتضيه المقام. فمن خطبهم في الجاهلية خطبة كعب بن لؤي جد النبي صلى الله عليه وسلم فيما ذكره أبو هلال العسكري في كتاب الأوائل. وهي: اسمعوا وعوا وتعلمُوا تَعْلَموا وتفهمُوا تَفْهَموا! ليل ساج. ونهار صاج والأرض مهاد الجبال أوتاد والأولون كالآخرين كل ذلك إلى بلاء فصلوا أرحامكم وأصلحوا أموالكم فهل رأيتم من هلك رجع أو ميتاً نشر الدار أمامكم والظن خلاف ما تقولون زينوا حرمكم وعظموه وتمسكوا به ولا تفارقوه فسيأتي له نبأ عظيم وسيخرج منه نبي كريم. ثم قال: نهار وليل واختلاف حوادث سواء علينا حلوها ومريرها يؤوبان بالأحداث حتى تأوبا وبالنعم الضافي علينا ستورها صروف وأنباء تقلب أهلها لها عقد ما يستحيل مريرها على غفلة يأتي النبي محمد فيخبر أخباراً صدوقاً خبيرها ثم قال: يا ليتني شاهد فحواء دعوته حين العشيرة تبغي الحق خذلانا ومن ذلك خطبة قس بن ساعدة الأيادي بسوق عطاظ فيما نقله أصحاب السير عن إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عنه وهي: أيها الناس اسمعوا وعوا من عاش مات ومن مات فات وكل ما هو آت آت ليل داج ونهار ساج وسماء ذات أبراج ونجوم تزهر وبحار تزخر وجبال مرساة وأرض مدحاة وأنهار مجراة. إن في السماء لخبراً وإن في الأرض لعبرا! ما بال الناس يذهبون ولا يرجعون ارضوا فأقاموا أم تركوا فناموا يقسم قس بالله قسماً لا إثم فيه إن لله ديناً هو أرضى له وأفضل من دينكم الذي أنتم عليه إنكم لتأتون من الأمر منكراً! ويروى أن قساً أنشأ بعد ذلك يقول: في الذاهبين الأولين من القرون لنا بصائر لما رأيت موارداً للموت ليس لها مصادر ورأيت قومي نحوها تمضي: الأكابر والأصاغر لا يرجع الماضي إل ي ولا من الباقين غابر أيقنت أني لا محا لة حيث صار القوم صائر قال صاحب الأوائل: يروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يعرض هذا الكلام يوم القيامخة على قس بن ساعدة فإن كان قاله لله فهو من أهل الجنة. ومن ذلك خطبة أبي طالب حين خطب النبي صلى الله عليه وسلم خديجة وهي: الحمد لله الذي جعلنا من زرع إبراهيم وذرية إسماعيل وجعل لنا بيتاً محجوباً وحرماً آمناً. ثم إن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ابن أخي من لا يوازن بأحد إلا رجحه ولا يعدل بأحد إلا فضله وإن كان في المال قل فإن المال ظل زائل وله في خديجة رغبة ولها فيه مثلها وما كان ومن خطب النبي صلى الله عليه وسلم " أيها الناس كأن الموت فيها على غيرنا قد كتب وكأن الحق فيها على غيرنا قد وجب وكأن الذي نشيع من الأموات سفر عما قليل إلينا راجعون نبوئهم أجداثهم ونأكل من تراثهم كأنا مخلدون بعدهم ونسينا كل واعظة وأمنا كل جائحة طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس طوبى لمن أنفق مالاً اكتسبه من غير معصية وجالس أهل الفقه والحكمة وخالط أهل الذل والمسكنة طوبى لمن زكت وحسنت خليقته وطابت سريرته وعزل عن الناس شره طوبى لمن أنفق الفضل من ماله وأمسك الفضل من قوله ووسعته السنة ولم تستهوه البدعة "!. ومن خطب أبي بكر الصديق رضي الله عنه فيما ذكره أبو جعفر النحاس في صناعة الكتاب وهي: ألا إن أشقى الناس في الدنيا والأخرة الملوك الملك إذا ملك زهده الله جل وعز فيما عنده ورغبه فيما في يدي غيره وانتقصه شطر أجله وأشرب قلبه الإشفاق وإذا وجبت نفسه ونضب عمره وضحا ظله حاسبه اله جل ثناؤه وأشد حسابه وأقل عفوه وسترون بعدي ملكاً عضوضاً وأمة شحاحاً ودماً مباحاً وإن كانت للباطل نزوة ولأهل الحق جولة يعفو لها الأثر وتموت السنن فالزموا المساجد واستشيروا القرآن وليكن الإبرام بعد التشاور والصفقة بعد التناظر. ومن خطب عمر رضي الله عنه: أيها الناس! إنه أتى علي حين وأنا أحسب أن من قرأ القرآن إنما يريد الله وما عنده ألا وإنه قد خيل إلي أن أقواماً يقرأون القرآن يريدون ما عند الناس ألا فأريدوا الله بقراءتكم وأريدوه بأعمالكم فإنما كنا نعرفكم إذ الوحي ينزل وإذ النبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا فقد رفع الوحي وذهب النبي عليه السلام فإنما أعرفكم بما أقول لكم ألا فمن أظهر لنا خيراً ظننا به خيراً وأثنينا به عليه ومن أظهر لنا شراً ظننا به شراً وأبغضناه عليه اقدعوا هذه النفوس عن شهواتها فإنها لملقة وإنكم إلا تقدعوها تنزع بكم إلى شر غاية. إن هذا الحق ثقيل مريء وإن الباطل خفيف وبي وترك الخطيئة خير من معالجة التوبة ورب نظرة زرعت شهوة وشهوة ساعة أورثت حزناً طويلاً!. ومن خطب عثمان رضي الله عنه: وقد أنكروا عليه تقديم بني أمية على غيرهم: أما بعد فإن لكل شيء آفة وآفة هذا الدين وعاهة هذه الملة قوم عيابون طعانون يظهرون لكم ما تحبون ويسرون ما تكرهون. أما والله يا معشر المهاجرين والأنصار! لقد عبتم علي أشياء ونقمتم مني أموراً قد أقررتم لابن الخطاب بمثلها ولكنه وقمكم وقماً ودمغكم حتى لا يجترئ أحد منكم يملأ بصره منه ولا يشير بطرفه إلا مسارقة إليه أما والله لأنا أكثر من ابن الخطاب عدداً وأقرب ناصراً وأجدر إن قال هلم أن يجاب. هل تفقدون من حقوقكم وأعطياتكم شيئاً فإني إلا أفعل في الفضل ما أريد فلم كنت إماماً إذن أما والله ما عاب علي من عاب منكم أمراً أجهله ولا أتيت الذي أتيت إلا وأنا أعرفه. ومن خطب علي كرم الله وجهه حين بويع بالخلافة: إن الله أنزل كتاباً هادياً بين فيه الخير والشر فخذوا بالخير ودعو الشر الفرائض أدوها إلى الله تؤديكم إلى الجنة. إن الله حرم حرماً غير مجهولة وفضل حرمة المسلم على الحرم كلها وسدد بالإخلاص والتوحيد حقوق المسلمين. فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده بالحق لا يحل أذى المسلم إلا بما يجب فأدوا أمر العامة وخاصة أحدكم الموت. فإن الناس أمامكم وإنما خلفكم الساعة تذكركم. تخففوا تلحقوا فإنما ينتظر بالناس أخراهم. اتقوا الله عباد الله في عباده وبلاده فإنكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم أطيعوا الله ولا تعصوه وإذا رأيتم الخر فخذوا به وإذا رأيتم الشر فدعوه واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض. ومن خطب الحسن بن علي رضي الله عنه: اعلموا أن الحلم زين والوقار مودة والصلة نعمة والإكثار صلف والعجلة سفه والسفه ضعف والقلق ورطة ومجالسة أهل الدناءة شين ومخالطة أهل الفسوق ريبة. ومن خطب معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه بصفين: أيها الناس! إن الحرب صعبة وإن السلم من ومبرة ألا وقد زبنتنا الحرب وزبناها وألفتنا وألفناها فنحن بنوها وهي أمنا. أيها الناس! استقيموا على سبيل الهدى ودعوا الأهواء المضلة والبدع المردية ولست أراكم تزدادون بعد الوصاة إلا استجراء ولن أزداد بعد الإعذار والحجة عليكم إلا عقوبة وقد التقينا نحن وأنتم عند السيف فمن شاء فليتحرك أو يتقهقر وما مثلي ومثلكم إلا كما قال ابن قيس بن رفاعة الأنصاري: من يصل ناري بلا ذنب ولا ترة يصلى بنار كريم غير غدار أنا النذير لكم مني مجاهرة كي لا ألام علي نهيي وإنذاري ومن خطب عتبة بن أبي سفيان وهو يومئذ أمير مصر وقد بلغه عن أهلها أمور أن صعد المنبر وقال: يا حاملي ألأم أنوف ركبت بين أعين! إنما قلمت أظفاري عنكم ليلين مسي إياكم وسألتكم صلاحكم لكم إذ كان فسادكم راجعاً عليكم فأما إذ أبيتم إلا الطعن على الأمراء والعتب على السلف والخلفاء فوالله لأقطعن بطون السياط على ظهوركم! فإن حسمت مستشري دائكم وإلا فالسيف من ورائكم. فكم من عظة لنا قد صمت عنها آذانكم وزجرة منا قد مجتها قلوبكم ولست أبخل عليكم بالعقوبة إذا جدتم علينا بالمعصية ولا مؤيساً لكم من المراجعة إلى الحسنى إن صرتم إلى التي هي أبر وأتقى. ومن خطب زياد بن أبيه حين قدم إلى البصرة: أما بعد فإن الجهالة الجهلاء والضلالة العمياء والغي الموفي بأهله على النار ما فيه سفهاؤكم ويشتمل عليه حلماؤكم من الأمور التي ينبت فيها الصغير ولا يتحاشى عنها الكبير كأنكم لم تقرأوا كتاب الله ولم تسمعوا ما أعد الله من الثواب الكريم لأهل طاعته والعذاب الأليم لأهل معصيته في الزمن السرمدي الذي لا يزول. إنه ليس منكم إلا من طرفت عينه الدنيا وسدت مسامعه الشهوات واختار الفانية على الباقية ولا تذكرون أنكم أحدثتم في الإسلام الحدث الذي لم تستبقوا إليه: من ترككم الضعيف يقهر والضعيفة المسلوبة في النهار لا تنصر والعدد غير قليل والجمع غير مفترق. ألم يكن منكم نهاة يمنعون الغواة عن دلج الليل وغارة النهار! قربتم القرابة! وباعدتم الدين تعتذرون بغير العذر وتغضون على النكر. كل امرئ منكم يرد عن سفيه صنع من لا يخاف عقابا ولا يرجو معادا. فلم يزل بهم ما ترون من قيامكم دونهم حتى انتهكوا حرم الإسلام ثم أطرفوا وراءكم كنوساً في مكانس الريب. حرام علي الطعام والشراب حتى أضع هذه المواخير بالأرض هدماً وإحراقاً! إني رأيت آخر هذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح به أوله: لين في غير ضعف وشدة في غير عنف وإني لأقسم بالله لآخذن الولي بالمولى والمقيم بالظاعن والمطيع بالعاصي حتى يلقى الرجل أخاه فيقول انج سعد فقد هلك سعيد أو تستقيم لي قناتكم. إن كذبة الأمير بلقاء مشهورة فإذا تعلقتم عليؤ بكذبة فقد حلت لكم معصيتي وقد كان بيني وبين قوم إحن فجعلت ذلك دبر أذني وتحت قدمي. إني لو علمت أن أحدكم قد قتله السل من بغضي لم أكشف له قناعاً ولم أهتك له ستراً حتى يبدي لي صفحته فإذا فعل ذلك لم أناظره فاستأنفوا أموركم وراعوا على أنفسكم فرب مبتئس بقدومنا سيسر ومسرور بقدومنا سيبتئس!. أيها الناس إنا قد أصبحنا لكم ساسة وعنكم ذادة نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا ونذود عنكم بفيء الله الذي خولنا فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا ولكم علينا العدل فيما ولينا فاستوجبوا عدلنا وفيأنا بمناصحتكم لنا. فقام إليه عبد الله بن الأهتم وقال: أيها الأمير لقد أوتيت الحكمة وفصل الخطاب قال: كذبت ذاك نبي الله داود. ومن خطب عبد الملك بن مروان لما قتل عمراً الأشدق بن سعيد بن العاص: إرموا بأبصاركم نحو أهل المعصية واجعلوا سلفكم لمن غبر منكم عظة ولا تكونوا أغفالاً من حسن الاعتبار فتنزل بكم جائحة السطوات وتجوس خلالكم بوادر النقمات وتطأ رقابكم بثقلها العقوبة فتجعلكم همداً رفاتاً وتشتمل عليكم بطون الأرض أمواتاً. فأي من قول قائل ورشقة جاهل! فإنما بيني وبينكم أن أسمع النعوة فأصمم تصميم الحسام المطرور وأصول صيال الحنق الموتور وإنما هي المصافحة والمكافحة بظبات السيوف وأسنة الرماح والمعاودة لكم بسوء الصباح فتاب تائب وهدل خائب والتوب مقبول والإحسان مبذول لمن عرف رشده وأبصر حظه. فانظروا لأنفسكم وأقبلوا على حظوظكم ولتكن أهل الطاعة يداً على أهل الجهل من سفهائكم واستديموا النعمة التي ابتدأتكم برغيد عيشها ونفيس زينتها فإنكم من ذلك بين فضيلتين: عاجل الخفض والدعة وآجل الجزاء والمثوبة عصمكم الله من الشيطان وفتنته ونزغه وأمدكم بحسن معزته وحفظه انهضوا رحمكم الله إلى قبض أعطياتكم غير مقطوعة عنكم ولا مكدرة عليكم. فخرج القوم من عنده بداراً كلهم يخاف أن تكون السطوة به. ومن خطب الحجاج بن يوسف الثقفي عند قدومه الكوفة أميراً على العراق: يا أهل العراق أنا الحجاج بن يوسف! أنا ابن جلا وطلاع الثنايا متى أضع العمامة تعرفوني والله يا أهل العراق: إني لأرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها وإني لصاحبها! والله لكأني أنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى. يا أهل العراق! ما يغمز جانبي كتغماز التنين ولا يقعقع لي بالشنان. ولقد فررت عن ذكاء وفتشت عن تجربة وأجريت من الغاية وإن أمير المؤمنين عبد الله نثر كنانته بين يديه فعجم عيدانها عوداً عوداً فوجدني أمرها عوداً وأشدها مكسراً فوجهني إليكم ورماكم بي يا أهل الكوفة أهل الشقاق والنفاق ومساوي الأخلاق: لأنكم طالما أوضعتم في الفتنة واضطجعتم في منام الضلال وسننتم سنن الغي وأيم الله لألحونكم لحو العود ولأقرعنكم قرع المروة ولأعصبنكم عصب السلمة ولأضربنكم ضرب غريبة الإبل. إني والله لا أحلف إلا صدقت ولا أعد إلا وفيت. إياي وهذه الزرافات وقال وما يقول وكان وما يكون. وما أنتم وذاك يأهل العراق. إنما أنتم أهل قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأتاها وعيد القرى من ربها. فاستوثقوا واعتدلوا ولا تميلوا واسمعوا وأطيعوا وشايعوا وبايعوا. واعلموا أن ليس مني الإكثار والإهذار ولا مع ذلك النفار ولا الفرار إنما هو انتضاء هذا السيف ثم لا يغمد الشتاء ولا الصيف حتى يذل الله لأمير المؤمنين عزتكم ويقيم له أودكم وصعركم. ثم إني وجدت الصدق من البر ووجدت البر في الجنة ووجدت الكذب من الفجور ووجدت الفجور في النار. وإن أمير المؤمنين أمرني أن أعطيكم أعطياتكم وأشخصكم لمجاهدة عدوكم وعدو أمير المؤمنين وقد أمرت لكم بذلك وأجلتكم ثلاثاً وأعطيت الله عهداً يؤاخذني به ويستوفيه مني: لئن تخلف منكم بعد قبض عطائه أحد لأضربن عنقه وانهبن ماله. ثم التفت إلى أهل الشام فقال: أنتم البطانة والعشيرة! والله لريحكم أطيب من ريح المسك الأذفر وإنما أنتم كما قال الله تعالى: ومن خطبه لما قدم البصرة يتهدد أهل العراق ويتوعدهم: أيها الناس: من أعياه داؤه فعندي دواؤه! ومن استطال أجله فعلي أن أعجله ومن ثقل عليه رأسه وضعت عنه ثقله ومن استطال ماضي عمره قصرت عليه باقيه. إن للشيطان طيفاً وللسلطان سيفاً! فمن سقمت سريرته صحت عقوبته ومن وضعه ذنبه رفعه صلبه ومن لم تسعه العافية لم تضق عنه الهلكة ومن سبقته بادرة فمه سبق بدنه بسفك دمه إني أنذر ثم لا أنظر وأحذر ثم لا أعذر وأتوعد ثم لا أعفو. إنما أفسدكم ترنيق ولاتكم ومن استرخى لبه ساء أدبه. إن الحزم والعزم سكنا في وسطي وأبدلاني به سيفي: فقائمه في يدي ونجاده في عنقي وذبابه قلادة لمن عصاني! والله لا آمر أحدكم أن يخرج من باب من أبواب المسجد فيخرج من الباب الذي يليه إلا ضربت عنقه. ولعمر بن عبد العزيز وسليمان بن عبد الملك من خلفاء بني أمية وأبي جعفر المنصور وهارون الرشيد وابنه المأمون من خلفاء بني العباس وغيرهم من خلفاء الدولتين وأمرائهم خطب فائقة وبلاغات معجبة رائقة يضيق هذا الكتاب عن إيرادها وقد أوردنا من ذلك ما فيه كفاية لبيب ومقنع للأريب. ومن خطب أبي بكر بن عبد الله أمير المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام والتحية والإكرام وقد بلغه عن قوم من أهل المدينة أنهم ينالون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسعفهم آخرون على ذلك: أيها الناس! إني قائل قولاً فمن وعاه وأداه فعلى الله جزاؤه ومن لم يعه فلا يعد من ذمامها إن قصرتم عن تفصيله فلن تعجزوا عن تحصيله. فأرعوه أبصاركم وأوعوه أسماعكم وأشعروه قلوبكم فالموعظة حياة والمؤمنون إخوة وعلى الله قصد السبيل ولو شاء لهداكم أجمعين. فأتوا الهدى تهتدوا واجتنبوا الغي ترشدوا وأنيبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون. والله جل جلاله وتقدست أسماؤه أمركم بالجماعة ورضيها لكم. ونهاكم عن الفرقة وسخطها منكم. فاتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون. اعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحت بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها. جعلنا الله وإياكم ممن يتبع رضوانه ويجتنب سخطه فإنا نحن به وله. وإن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالدين واختاره على العالمين واختار له أصحاباً على الحق وزراء دون الخلق. اختصهم به وانتخبهم له فصدقوه ونصروه وعزروه ووقروه فلم يقدموا إلا بأمره ولم يحجموا إلا عن رأيه وكانوا أعوانه بعهده وخلفاءه من بعده. فوصفهم فأحسن وصفهم وذكرهم فأثنى عليهم فقال وقوله الحق وقال الله جل وعز وفارقوا المسلمين وجعلوهم عصين. وحزبوا أجزاباً وأشابات وأوشاباً. فخالفوا كتاب الله فيهم فخابوا وخسروا الدنيا والآخرة. ذلك هو الخسران المبين. أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم. مالي أرى عيوناً خزراً ورقاباً صعراً وبطوناً بجرى شجى لا يسيغه الماء وداء لا يشرب فيه الدواء. أفنضب عنكم الذكر صفحاً أن كنتم قوماً مسرفين. كلا والله بل هو الهناء والطلاء حتى يظهر العذر ويبوح السر ويضح العيب ويشوس الجيب. فإنكم لم تخلقوا عبثاً ولم تتركوا سدى ويحكم إني لست أتاوياً أعلم ولا بدوياً أفهم. قد حلبتكم أشطراً وقلبتكم أبطناً وأظهراً. فعرفت أنحاءكم وأهواءكم وعلمت أن قوماً أظهروا الإسلام بألسنتهم وأسروا الكفر في قلوبهم فضربوا بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض وولدوا الروايات فيهم وضربوا الأمثال ووجدوا على ذلك من أهل الجهل من أبنائهم أعواناً يأذنون لهم ويصغون إليهم مهلاً مهلا! قبل وقوع القوارع وطول الروائع هذا لهذا ومع هذا فلست أعتنش آئباً ولا تائباً عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام فأسروا خيراً وأظهروه واجهروا به وأخلصوه. وطالما مشيتم القهقرى ناكصين. وليعلم من أدبر وأصر أنها موعظة بين يدي نقمة ولست أدعوكم إلى هوى يتبع ولا إلى رأي يبتدع. إنما أدعوكم إلى الطريقة المثلى التي فيها خير الآخرة والأولى فمن أجاب فإلى رشده ومن عمي فعن قصده. فهلم إلى الشرائع الجدائع ولا تؤولوا عن سبيل المؤمنين ولا تستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير إياكم وبنيات الطريق فعندها الترنيق والترهيق. وعليكم بالجادة فيه أسد وأورد ودعوا الأماني فقد أودت من كان قبلكم. وأن ليس للإنسان إلا ما سعى. ولله الآخرة والأولى. ولا تفتروا على الله الكذب فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى. ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب. ومن خطب خالد بن عبد الله أمير البصرة: أيها الناس! نافسوا في المكارم وسارعوا إلى المغانم. واشتروا الحمد بالجود ولا تكسبوا بالمطل ذماً ولا تعتدوا بالمعروف ما لم تعجلوه ومهما يكن لأحد منكم عند أحد نعمة فلم يبلغ شكرها فالله أحسن لها جزاء وأجزل عليها عطاء. واعلموا أن حوائج الناس إليكم نعمة من الله عليكم فلا تملوا النعم فتحولوها نقماً. واعلموا أن أفضل المال ما أكسب أجراً وأورث ذكراً. ولو رأيتم المعروف رجلاً رأيتموه حسناً جميلاً يسر الناظرين. ولو رأيتم البخل رجلاً رأيتموه مشوهاً قبيحاً تنفر عنه القلوب وتغضي عنه الأبصار. أيها الناس! إن أجود الناس من أعطى من لا يرجوه وأعظم الناس عفواً من عفا عن قدرة وأوصل الناس من وصل من قطعه ومن لم يطب حرثه لم يزك نبته والأصول عن مغارسها تنمو وبأصولها تسمو. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. ومن خطب قطري بن الفجاءة خطبته المشهورة في ذم الدنيا والتحذير عنها وهي: أما بعد. فإني أحذركم الدنيا فإنها حلوة خضرة حفت بالشهوات وراقت بالقليل وتحببت بالعاجلة وحليت بالآمال وتزينت بالغرور. لا تدوم نصرتها ولا تؤمن فجعتها. غرارة ضرارة وخاتلة زائلة ونافذة بائدة أكالة غوالة. لا تعدو إذ تناهت إلى أمنية أهل الرغبة فيها والرضا عنها أن تكون كما قال الله تعالى ولم تصله غيثة رخاء إلا هطلت عليه مزنة بلاء. وحرية إذا أصبحت له منتصرة أن تمسي له خاذلة متنكرة. وأي جانب منها اعذوذب واحلولى أمر عليه منها جانب وأوبا. فإن آتت امرأ من غصونها ورقاً أرهقته من نوائبها تعبا. ولم يمس منها امرؤ في جناح أمن إلا أصبح منها على قوادم خوف غرارة: غرور ما فيها فانية: فان من عليها لا خير في شيء من زادها إلا التقوى. من أقل منها استكثر مما يؤممنه. ومن استكثر منها استكثر مما يوبقه ويطيل حزنه ويبكي عينه. كم واثق بها قد فجعته وذي حكم ثنته إليها قد صرعته وذي احتيال فيها قد خدعته. وكم ذي أبهة فيها قد صيرته حقيراً وذي نخوة قد ردته ذليلاً. ومن ذي تاج قد كبته لليدين والفم. سلطانها دول. وعيشها رنق وعذبها أجاج وحلوها صبر وغذاؤها سمام وأسبابها رمام. قطافها سلع. حيها بعرض موت وصحيحها بعرض سقم. منيعها بعرض اهتضام. وملكها مسلوب وعزيزها مغلوب. وسليمها منكوب وجارها محروب. مع أن وراء ذلك سكرات الموت وهول المطلع والوقوف بين يدي الحكم العدل ألستم في مساكن من كان قبلكم أطول منكم أعماراً وأوضح منكم آثاراً وأعد عديداً وأكثف جنوداً وأشد عتوداً. تعبدوا للدنيا أي تعبد وآثروها أي إيثار وظعنوا عنها بالكره والصغار. فهل بلغكم أن الدنيا سمحت لهم نفساً بفدية أو أغنت عنهم فيما قد أهلكتهم بخطب بل أرهقتهم بالقوادح وضعضعتهم بالنوائب وعقرتهم بالفجائع. وقد رأيتم تنكرها لمن رادها وآثرها وأخلد إليها حين ظعنوا عنها لفراق إلى الأبد إلى آخر الأمد. هل زودتهم إلا السغب وأحلتهم إلا الضنك أو نورت لهم إلا الظلمة أو أعقبتهم إلا الندامة أفهذه تؤثرون أم على هذه تحرصون أم إليها تطمئنون يقول الله جل ذكره إلى غير ذلك من خطب خلفاء الدولتين وأمرائهم مما يطول القول بإيراده ويخرج الكتاب بذكره عن حده.
قد تقدم في أول المقصد الأول من هذا النوع قول أبي هلال العسكري: إن الرسائل والخطب متشاكلتان في أنهما كلام لا يلحقه وزن ولا تفقيه والمشاكلة في الفواصل وإن الخطب يشافه بها بخلاف الرسالة والرسالة تجعل خطبة والخطبة تجعل رسالة في أيسر كلفة. وحينئذ فإذا أراد الكاتب نقل الخطبة إلى الرسالة أمكنه ذلك فإذا أكثر صاحب هذه الصناعة من حفظ الخطب البليغة وعلم مقاصد الخطابة وموارد الفصاحة ومواقع البلاغة وعرف مصاقع الخطباء ومشاهيرهم اتسع له المجال في الكلام وسهلت عليه مستوعرات النثر وذللت له صعاب المعاني وفاض على لسانه في وقت الحاجة ما كمن في ذلك بين ضلوعه فأودعه في نثره وضمنه في رسائله فاستغنى عن شغل الفكر في استنباط المعاني البديعة ومشقة التعب في تتبع الألفاظ الفصيحة التي لا تنهض فكرته بمثلها ولو جهد ولا يسمح خاطره بنظيرها ولو دأب. إن الخطب جزء من أجزاء الكتابة ونوع من أنواعها يحتاج الكتاب إليها في صدور بعض المكاتبات وفي البيعات والعهود والتقاليد والتفاويض وكبار التواقيع والمراسيم والمناشير على ما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى وما لعله ينشئه من خطجبة صداق أو رسالة أو نحو ذلك. وكذلك يعرف مصاقع الخطباء ومشاهير الفصحاء والبلغاء كقس بن ساعدة الإيادي الذي تقدمت خطبته آنفاً في صدر الخطب. وسحبان الوائلي: وهو رجل من بني وائل لسن بليغ يضرب به المثل في البيان وغيرهما ممن يضرب به المثل في الفصاحة والبلاغة ومن ينسب إلى العي والغباوة كباقل: وهو رجل من بني العرب اشترى ظبياً بأحد عشر درهماً فقيل له بكم اشتريته ففتح كفيه وفرق أصابعه العشرة وأخرج لسانه يشير بذلك إلى أحد عشر ولم يحسن التعبير عنها فانفلت الظبي فضرب به المثل في العي. فإذا عرف البليغ وغير البليغ وعالي الرتبة وسافلها وعرض حينئذ بذكر من أراد منهم مقايساً للفاضل بمثله وللغبي بنظيره: كما قال القاضي الفاضل في بعض رسائله في جواب كتاب ورد عليه من بعض إخوانه: فأما شوقه لعبده فالمولى قد أبقاه الله قد أوتي فصاحة لسان وسحب ذيل العي على سحبان. وكما قال الشيخ ضياء الدين أحمد القرطبي من رسالة كتب بها للشيخ تقي الدين بن دقيق العيد يصف رسالة وردت منه عليه: إن كلمها يميس في صدورها وأعجازها وتنثال عليها أعراض المعاني بني إسهابها وإيجازها فهي فرائد ائتلفت في أبكار الوائلي والإيادي.
جانب جيد من مكاتبات الصدر الأول ومحاوراتهم ومراجعاتهم وما ادعاه كل منهم لنفسه أو لقومه والنظر في رسائل المتقدمين من بلغاء الكتاب وفيه ثلاثة مقاصد
أما حفظ مكاتبات الصدر الأول ورسائلهم فلأنها مع مبتدع البلاغة وكنز الفصاحة غير ملابسة لطريقة الكتاب في أكثر الأمور فيستعان بحفظها على مواقع البلاغة ولا يطمع الخاطر بالاتكال على إيراد فصل منها برمته لمخالفته لأسلوب الكتاب في أكثر الأمور. وأما النظر في رسائل البلغاء من فضلاء الكتاب فلما في ذلك من تنقيح القريحة وإرشاد الخاطر وتسهيل الطرق والنسج على منوال المجيد والاقتداء بطريقة المحسن واستدراك ما فات والاحتراز مما أظهره النقد ورد ما بهرجه السبك. واقتصر على النظر فيها دون حفظها لئلا يتكل الخاطر على ما يأتي بأصله مما ليس له فيتشبع بما لم يعط فيكون كلابس ثوبي زور. اللهم إلا أن يريد بحفظها المحاضرة دون الإنشاء فإن اللائق به الحفظ دون غيره.
من ذلك أما مكاتباتهم المشتملة على المحاورة والمراجعة فمنها ما كتب به معاوية بن أبي سفيان رضي أما بعد فإن الله اصطفى محمداً وجعله الأمين على وحيه والرسول إلى خلقه واختار له من المسلمين أعواناً أيده بهم وكانوا في منازلهم عنده على قدر فضائلهم في الإسلام فكان أفضلهم في الإسلام وأنصحهم لله ولسوله الخليفة وخليفة الخليفة والخليفة الثالث فكلهم حسدت وعلى كلهم بغيت. عرفنا ذلك في نظرك الشزر وتنفسك الصعداء وإبطائك على الخلفاء وأنت في كل ذلك تقاد كما يقاد البعير المخشوش حتى تبايع وأنت كاره ولم تكن لأحد منهم أشد حسداً منك لابن عمك عثمان وكان أحقهم أن لا تفعل ذلك به في قرابته وصهره فقطعت رحمه وقبحت محاسنه وألبت عليه الناس حتى ضربت إليه آباط الإبل وشهر عليه السلاح في حرم الرسول فقتل معك في المحلة وأنت تسمع في داره الهائعة لا تؤدي عن نفسك في أمره بقول ولا فعل بر. أقسم قسماً صادقاً! لو قمت في أمره مقاماً واحداً تنهين الناس عنه ما عدل بك ممن قبلنا من الناس أحد ولمحا ذلك عنك ما كانوا يعرفونك به: من المجانبة لعثمان والبغي عليه. وأخرى أنت بها عند أولياء ابن عفان ضنين إيواؤك قتلة عثمان فهم بطانتك وعضدك وأنصارك. فقد بلغني أنك تنتفي من دمه فإن كنت صادقاً فادفع إلينا قتلته نقتلهم به. ثم نحن أسرع الناس إليك وإلا فليس لك ولا لأصحابك عندنا إلا السيف! والذي نفس معاوية بيده لأطلبن قتلة عثمان في الجبال والرمال والبر والبحر حتى نقتلهم أو تلحق أرواحنا بالله!. أما بعد فقد أتاني كتابك تذكر فيه اصطفاء الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم لدينه وتأييده إياه بمن أيده به من أصحابه فلقد خبأ لنا الدهر منك عجباً! أفطفقت تخبرنا بآلاء الله عندنا فكنت كناقل التمر إلى هجر أو داعي مدرة إلى النضال وزعمت أن أفضل الناس في الإسلام فلان وفلان فذكرت أمراً إن تم اعتزلك كله. وإن نقص لم يلقحك قله وما أنت والفاضل والمفضول والسائل والمسؤول! وما للطلقاء وأبناء الطلقاء والتمييز بين المهاجرين الأولين وترتيب درجاتهم وتعريف طبقاتهم هيهات لقد حن قدح ليس منها وطفق يحكم فيها من عليه الحكم لها ألا تربع على ظلعك وتعرف قصور ذرعك وتتأخر حيث أخرك القدر فما عليك غلبة المغلوب. ولا لك ظفر الظافر. وإنك لذهاب في التيه رواع عن القصد. ألا ترى غير مخبر لك ولكن بنعمة الله أحدث أن قوماً استشهدوا في سبيل الله ولك فضل حتى إذا استشهد شهيدنا قيل سيد الشهداء وخصه رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبعين تكبيرة عند صلاته عليه أولا ترى أن قوماً قطعت أيديهم في سبيل الله ولكل فضل حتى إذا فعل بواجد منا ما فعل بواحد منهم قيل الطيار في الجنة وذو الجناحين ولولا ما نهي عن تزكية المرء نفسه لذكر ذاكر فضائل جمة تعرفها قلوب المؤمنين ولا تمجها آذان السامعين. فدع عنك من مالت به الرمية فإنا صنائع رينا والناس بعد صنائع لنا لم يمنعنا قديم عزنا. ومديد طولنا على قومك أن خلطناهم بأنفسنا: فنكحنا وأنكحنا فعل الأكفاء ولستم هناك. وأني يكون ذلك كذلك! ومنا النبي ومنكم المكذب ومنا أسد الله ومنك أسد الأحلاف ومنا سيد شباب أهل الجنة ومنكم صبية النار ومنا خير نساء العالمين ومنم حمالة الحطب فإسلامنا قد سمع وجاهليتنا لا تدفع كتاب اله يجمع لنا ما شذ عنا وهو قوله سبحانه وتعالى ولما احتج المهاجرون على الأنصار يوم السقيفة برسول الله صلى الله عليه وسلم فلجوا عليهم فإن يكن الفلج به فالحق لنا دونكم وإن يكن بغيره فالأنصار على دعواهم. وزعمت أني لكل الخلفاء حسدت وعلى كلهم بغيت فإن يك ذلك كذلك فليست الجناية عليك فتكون المعذرة إليك وتلك شكاة ظاهر عنك عارها. وقلت إني كنت أقاد كما يقاد الجمل المخشوش حتى أبايع. ولعمر الله! لقد أردت أن تذم فحمدت وأن تفضح فافتضحت وما على المسلم من غضاضة في أن يكون مظلوماً ما لم يكن شاكاً في دينه ولا مرتاباً في يقينه. وهذه حجتي إلى غيرك قصدها ولكني أطلقت لك منها بقدر ما سنح لك من ذكرها. ثم ذكرت ما كان من أمري وأمر عثمان فأينا كان أعدى له وأهدى إلى مقاتله: أمن بذل نصرته فاستقعده واستكفه أم من استنصره فتراخى عنه وبث المنون إليه حتى أتى قدره عليه. كلا والله! لقد علم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلاً. وما كنت أعتذر من أني كنت أنقم عليه أحداثاً فإن يكن الذنب إليه إرشادي وهدايتي له فرب ملوم لا ذنب له. وقد يستفيد الظنة المتنصح وما أردت إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب. وذكرت أنه ليس لي ولأصحابي إلا السيف! فلقد أضحكت بعد استعبار متى ألفيت بني عبد المطلب عن الأعداء ناكلين أو بالسيوف مخوفين. ف لبث قليلاً يلحق الهيجا حمل سيطلبك من تطلب ويقرب منك ما تستبعد وأنا مرقل نحوك في جحفل من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان شديد زحامهم ساطع قتامهم مسربلين سرابيل الموت. أحب اللقاء إليهم لقاء ربهم. قد صحبتهم ذرية بدرية وسيوف هاشمية قد علمت مواقع نصالها في أخيك وخالك وجدك وأهلك وكما كتب أبو جعفر المنصور ثاني خلفاء بني العباس وهو يومئذ خليفة إلى محمد بن عبد الله بن الحسن المثني بن الحسن السبط حين بويع له بالخلافة وخرج على المنصور يريد انتزاعها منه: من عبد الله عبد الله أمير المؤمنين إلى محمد بن عبد الله. ولك ذمة الله وعهده وميثاقه وحق نبيه محمد صلى الله عليه وسلم إن تبت من قبل أن يقدر عليك أن أؤمنك على نفسك وولدك وإخوتك ومن بايعك وجميع شيعتك وأن أعطيك ألف ألف درهم وأنزلك من البلاد حيث شئت وأقضي لك ما شئت من الحاجات وأن أطلق من في سجني من أهل بيتك وشيعتك وأنصارك ثم لا أتبع أحداً منكم بمكروه وإن شئت أن تتوثق لنفسك فوحه إلي من يأخذ لك من الميثاق والعهد والأيمان ما أحببت والسلام. فأجابه محمد بن عبد الله بما نصه: من محمد بن عبد الله أمير المؤمنين إلى عبد الله بن محمد. وأنا أعرض عليك من الأمان مثل الذي أعطيتني فقد تعلم أن الحق حقنا وأنكم إنما أعطيتموه بنا ونهضتم فيه بسعينا وحطتموه بفضلنا وان أبانا علياً عليه السلام كان الوصي والإمام فيكيف ورثتموه دوننا ونحن أحياء! وقد علمت أنه ليس أحد من بني هاشم يمت بمثل فضلنا ولا يفخر بمثل قديمنا وحديثنا ونسبنا وإنا بنو أم أبي رسول الله: فاطمة بنت عمرو في الجاهلية دونكم وبنو ابنته فاطمة في الإسلام من بينكم فأنا أوسط بني هاشم نسباً وخيرهم أماً وأباً لم تلدني العجم ولم تعرق في أمهات الأولاد. وإن الله عز وجل لم يزل يختار لنا فولدني من النبيين أفضلهم: محمد صلى الله عليه وسلم. ومن أصحابه أقدمهم إسلاماً وأوسعهم علماً وأكثرهم جهاداً: علي بن أبي طالب ومن نسائه أفضلهن: خديجة بنت خويلد أول من آمن بالله وصلى إلى القبلة ومن بناته أفضلهن وسيدة نساء أهل الجنة ومن المولودين في الإسلام الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة ثم قد علمت أن هاشماً ولد علياً مرتين وأن عبد المطلب ولد الحسن مرتين وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولدني مرتين من قبل جدي الحسن والحسين فما زال الإله يختار لي حتى اختار لي في النار فولدني أرفع الناس درجة في الجنة وأهون أهل النار عذاباً يوم القيامة فأنا ابن خير الأخيار وابن خير الأشرار وابن خير أهل الجنة وابن خير أهل النار. ولك عهد الله إن دخلت في بيعتي أن أؤمنك على نفسك وولدك وكل ما أصبته إلا حداً من حدود الله تعالى أو حقاً لمسلم أو معاهد. فقد علمت ما يلزمك في ذلك فأنا أوفي بالعهد منك وأنت أحرى بقبول الأمان مني. فأما أمانك الذي عرضت علي فأي الأمانات هو أأمان ابن هبيررة أم أمان عمك عبد الله بن علي أم أمان مسلم والسلام. فأجابه المنصور: من عبد الله عبد الله أمير المؤمنين إلى محمد بن عبد الله أما بعد فقد أتاني كتابك وبلغني كلامك فإذا جل فخرك بالنساء لتضل به الحفاة والغوغاء ولم يجعل الله النساء كالعمومة ولا الآباء كالعصبة والأولياء. وقد جعل الله تعالى العم أباً وبدأ به على الوالد الأدى. فقال جل ثناؤه عن نبيه يوسف عليه السلام: ولقد علمت أن الله تبارك وتعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم وعمومته أربعة فأجاب اثنان أحدهما أبي وكفر اثنان أحدهما أبوك. وأما ما ذكرت من النساء وقراباتهن فلو أعطين على قدر الأنساب وحق الأحساب لكان الخير كله لآمنة بنت وهب ولكن الله يختار لدينه من يشاء من خلقه. وأما ما ذكرت من فاطمة بنت أسد أم علي بن أبي طالب وفاطمة بنت الحسين وأن هاشماً ولد علياً مرتين وأن عبد المطلب ولد الحسن مرتين فخير الأولين والآخرين رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يلده هاشم إلا مرة واحدة ولم يلد عبد المطلب إلا مرة واحدة. وأما ما ذكرت من أنك ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الله عز وجل قد أبى ذلك فقال: ولقد حضر أبوك وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بالصلاة غيره. ثم أخذ الناس رجالاً فلم يأخذوا أباك فيهم. ثم كان في أصحاب الشورى فكل دفعه عنها وبايع عبد الرحمن عثمان وقبلها عثمان وحارب أباك طلحة والزبير ودعا سعداً إلى بيعته فأغلق بابه دونه. ثم بايع معاوية بعده وأفضى أمر جدك إلى أبيك الحسن فسلمه إلى معاوية بخرق ودراهم وخرج إلى المدينة فدفع الأمر إلى غير أهله وأخذ مالاً من غير حله. فإن كان لكم فيها شيء فقد بعتموه. وأما قولك إن الله اختار لك في الكفر فجعل أبوك أهون أهل النار عذاباً فليس في الشر خيار ولا من عذاب الله هين ولا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يفتخر بالنار. سترد فتعلم وأما قولك إنه لم تلدك العجم ولم تعرق فيك أمهات الأولاد وإنك أوسط بني هاشم نسباً وخيرهم أماً وأباً فقد رأيتك فخرت على بني هاشم طراً وقدمت نفسك على من هو خير منك أولاً وآخراً وأصلاً وفصلاً فخرت على إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى والد ولده فانظر ويحك أين تكون من الله تعالى غداً! وما ولد فيكم مولود بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من علي بن الحسين وهو لأم ولد ولقد كان خيراً من جدك حسن بن حسن. ثم ابنه محمد بن علي خير من أبيك وجدته أم ولد. ثم ابنه جعفر وهو خير منك ولدته أم ولد. ولقد علمت أن جدك علياً حكم حكمين وأعطاهما عهده وميثاقه على الرضا بما حكما به فاجتمعا على خلعه ثم خرج عمك الحسين على ابن مرجانة وكان الناس معه عليه حتى قتلوه ثم أتوا بكم على الأقتاب من غير أوطية كالسبي المجلوب إلى الشأم. ثم خرج منكم غير واحد فقتلكم بنو أمية وحزقوكم بالنار وصلبوكم على جذوع النخل حتى خرجنا عليهم فأدركنا بثأركم إذ لم تدركوه ورفعنا أقداركم وأورثناكم أرضهم وديارهم بعد أن كانوا بلعنون أباك في أديار الصلاة المكتوبة كما تلعن الكفرة فمنعناهم وكفرناهم وبينا فضله وأشدنا بذكره فاتخذت ذلك علينا حجة وظننت أنا بما ذكرنا من فضل علي قدمناه على حمزة والعباس وجعفر كل أولئك مضوا سالمين سلماً منهم وابتلي أبوك بالكرماء. ولقد علمت أن مآثرنا في الجاهلية سقاية الحاج الأعظم وولاية زمزم وكانت للعباس دون إخوته فنازع فيها أبوك إلى عمر فقضى لنا عمر بها. وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس من عمومته أحد حياً إلا العباس فكان وارثه دون بني عبد المطلب فطلب الخلافة غير واحد من بني هاشم فلم ينلها إلا ولده. فاجتمع للعباس أنه أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء وبنوه القادة الخلفاء فقد ذهب بفضل القديم والحديث ولولا العباس أخرج إلى بدر كرهاً لمات عماك طالب وعقيل جوعاً أو يتجشمان جفان عتبة وشيبة فأذهب عنهما العار والشنار. ولقد جاء الإسلام والعباس يمون أبا طالب للأزمة التي أصابتهم. ثم فدى عقيلاً يوم بدر فقد مناكم في الكفر وفديناكم من الأسر وورثنا دونكم خاتم الأنبياء وحزنا شرف الآباء وأدركنا بثأركم إذ عجزتم عنه ووضعناكم حيث لم تضعوا أنفسكم والسلام. ومن مكاتبات ملوك الفرس البلغاء ما كتب به ارسطوطاليس إلى الإسكندر: إنه إنما تملك الرعية بالإحسان إليها وتظفر بالمحبة منها فإن طلبك ذلك بإحسانك هو أدوم بقاء منه باعتسافك بعنفك. واعلم أنه إنما تملك الأبدان فاجمع إليها القلوب بالمحبة. واعلم أن الرعية إذا ومما كتب به أبرويز إلى ابنه شيرويه يوصيه بالرعية كتاباً فيه: ليكن من تختاره لولايتك رجلاً كان في وضعية فرفعته وذا شرف كان مهملاً فاصطنعته. ولا تجعله أمرأ أصبته بعقوبة فاتضع لها ولا أحداً ممن يقع بقلبك أن إزالة سلطانك أحب إليه من ثبوته وإياك أن تستعمله ضريعاً غمراً كثيراً إعجابه بنفسه قليلاً تجربته في غيره ولا كبيراً مدبراً قد أخذ الدهر من عقله كما أخذت السن من جسمه. ومما كتب ب أبرويز إلى ابنه شيرويه أيضاً: إن كلمة منك تسفك دماً وأخرى تحقن دماً وإن سخطك سيف مسلول على من سخطت عليه وإن رضاك بركة مفيدة على من رضيت عنه وإن نفاذ أمرك مع ظهور كلامك فاحترس في غضبك من قولك أن يخطئ ومن لونك أن يتغير ومن جسدك أن يخف فإن الملوك تعاقب جرماً وتعفو حلماً. ومما كتب به أردشير إلى رعيته: من أردشير المؤيد ملك الملوك وارث العظماء إلى الفقهاء الذين هم حملة الدين والأساورة الذين هم حفظة البيضة والكتاب الذين هم زين المملكة وذوي الحروب الذين هم عمدة البلد. السلام عليكم فإنا نحمد إليكم الله سالمين وقد وضعنا عن رعيتنا بفضل رأفتنا بها إتاوتها الموظفة عليها ونحن مع ذلك كاتبون بوصية: لا تستشعروا الحقد فيدهمكم العدو ولا تحتكروا فيشملكم القحط وتزوجوا القرائب فإن أمس للرحم وأما رسائلهم ومخاطباتهم فمن ذلك رسالة الصديق رضي الله عنه إلى علي بن أبي طالب كرم الله وجه حين تلكأ عن مبايعته على لسان أبي عبيدة ابن الجراح رضي الله عنه مع ما انضم إلى ذلك من كلام أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب رضي الله عنه وما كان من جواب علي عنها. قال أبو حيان علي بن محمد التوحيدي البغدادي: سمرنا ليلة عند القاضي أبي حامد أحمد بن بشر المروروذي ببغداد فتصرف في الحديث كل متصرف وكان غزير الرواية لطيف الدراية فجرى حديث السقيفة فركب كل مركباً وقال قولاً وعرض بشيء ونزع إلى فن. فقال: هل فيكم من يحفظ رسالة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه إلى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وجواب علي عنها ومبايعته إياه عقيب تلك المناظرة. فقال الجماعة: لا والله فقال: هي والله من بنات الحقائق ومخبأت الصنادق ومنذ حفظتها ما رويتها إلا لأبي محمد المهلبي في وزارته فكتبها عني بيده وقال: لا أعرف رسالة أعقل منها ولا أبين وإنها لتدل على علم وحلم وفصاحة ونباهة وبعد غور وشدة غوص فقال له العباداني: أيها القاضي فلو أتممت المنة علينا بروايتها أسمعناها فنحن أوعى لك من المهلبي وأوجب ذماماً عليك فاندفع وقال: حدثنا الخزاعي بمكة عن أبي ميسرة قال حدثنا محمد بن أبي فليح عن عيسى بن دوأب بن المتاح قال: سمعت مولاي أبا عبيدة يقول: لما استقامت الخلافة لأبي بكر رضي الله عنه بين المهاجرين والأنصار بعد فتنة كاد الشيطان بها. فدفع الله شرها ويسر خيرها بلغ أبا بكر عن ع لي تلكؤ وسماس وتهمم ونفاس. فكره أن يتمادى الحال فتبدو العورة وتشتعل الجمرة وتتفرق ذات البين فدعاني بحضرته في خلوة وكان عنده عمر بن الخطاب رضي الله عنه وحده فقال: يا أبا عبيدة ما أيمن ناصيتك وأبين الخير بين عينيك وطالما أعز الله بك الإسلام وأصلح شأنه على يديك ولقد كنت من رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمكان المحوط والمحل المغبوط ولقد قال فيك في يوم مشهود لكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبوة عبيدة ولم تزل للدين ملتجأ وللمؤمنين مرتجا ولأهلك ركناً ولإخوانك ردءاً. قد أردتك لأمر خطر مخوف وإصلاحه من أعظم المعروف ولئن لم يندمل جرحه بيسارك ورفقك ولم تجب حيته برقيتك وقع اليأس وأعضل البأس واحتيج بعد ذلك إلى ما هو أمر منه وأعلق وأعسر منه وأغلق والله أسأل تمامه بك ونظامه على يديك. فتأت له أبا عبيدة وتلطف فيه وانصح لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولهذه العصابة غير آل جهداً ولا قال حمداً واله كالؤك وناصرك وهاديك ومبصرك إن شاء الله. امض إلى علي واخفض له جناجك واغضض عنده صوتك واعلم أنه سلالة أبي طالب ومكانه ممن فقدناه بالأمس صلى الله عليه وسلم مكانه وقل له البحر مفرقة والجو أكلف والليل أغدف والسماء جلواء والأرض صلعاء والصعود متعذر والهبوط متعسر والحق عطوف رءوف والباطل عنوف عسوف والعجب قداحة الشر والضغن رائد البوار والتعريض شجار الفتنة والقحة ثقوب العداوة وهذا الشيطان متكئ على شماله متحيل بيمينه نافخ خصييه لأهله ينتظر الشتات والفرقة ويدب بني الأمة بالشحناء والعداوة عناداً لله عز وجل أولاً ولأدم ثانياً ولنبيه صلى الله عليه وسلم ودينه ثالثاً يوسوسو بالفجور ويدلي بالغرور ويمني أهل الشرور. ويوحي إلى أوليائه زخرف القول غروراً بالباطل دأباً له منذ كان على عهد أبينا آدم صلى الله عليه وسلم وعادة له منذ أهانه الله تعالى في سالف الدهر لا منجي منه إلا بعض الناجذ على الحق وغض الطرف عن الباطل ووطء هامة عدو الله بالأشد فالأشد والأكد فالأكد وإسلام النفس لله عز وجل في ابتغاء رضاه. ولا بد الآن من قول ينفع إذا ضر السكوت وخيف غبه ولقد أرشدك من أفاء ضالتك وصافاك من أحيا مودته بعتابك وأراد لك الخير من آثر البقاء معك ما هذا الذي تسول لك نفسك ويدوي به قلبك ويلتوي عليه رأيك ويتخاوص دونه طرفك ويسري فيه ظعنك ويتراد معه نفسك وتكثر عنجه صعداؤك ولا يفيض به لسانك. أعجمة بعد إفصاح أتلبيس بعد إيضاح أدين غير دين الله أخلق غير خلق القرآن أهدي غير هدي النبي صلى الله عليه وسلم أمثلي تمشي له الضراء وتدب له الخمر أم مثلك ينقبض عليه الفضاء ويكسف في عينه القمر ما هذه القعقعة بالشنان وما هذه الوعوعة باللسان إنك والله جد عارف باستجابتنا لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم وبخروجنا عن أوطاننا وأموالنا وأولادنا وأحبتنا هجرة إلى الله عز وجل ونصرة لدينه في زمان أنت فيه في كن الصبا وخدر الغرارة وعنفوان الشبيبة غافل عما يشيب ويريب لا تعي ما يراد ويشاد ولا تحصل ما يساق ويقاد سوى ما أنت جار عليه إلى غايتك التي إليها عدل بك وعندها حط رحلك غير مجهول القدر ولا مجحود الفضل ونحن في أثناء ذلك نعاني أحوالاً تزيل الرواسي ونقاسي أهوالاً تشيب النواصي خائضين غمارها راكبين تيارها نتجرع صابها ونشرج عيابها ونحكم أساسها ونبرم أمراسها والعيون تحدج بالحسد والأنوف تعطس بالكبر والصدور تستعر بالغيظ والأعناق تتطاول بالفخر والشفار تشحذ بالمكر والأرض تميد بالخوف لا ننتظر عند المساء صباحاً ولا عند الصباح مساء ولا ندفع في نحر امرئ إلا بعد أن نحسو الموت دونه ولا نبلغ مراداً إلا بعد الإياس من الحياة عنده فادين في جميع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأب والأم والخال والعم والمال والنشب والسبد واللبد والهلة والبلة بطيب أنفس وقرة أعين ورحب أعطان ونثبات عزائم وصحة عقول وطلاقة أوجه وذلاقة ألسن هذا مع خفيات أسرار ومكنونات أخبار كنت عنها غافلاً ولولا سنك لم تكن عن شيء منها ناكلاً كيف وفؤادك مشهوم وعودك معجوم. والآن قد بلغ الله بك وأنهض الخير لك وجعل مرادك بن يديك وعن علم أقول ما تسمع فارتقب زمانك وقلص أردانك و دع التقعس والتجسس لمن لا يظلع لك إذا خطا ولا يتزحزح عنك إذا عطا فالأمر غض والنفوس فيها مض وإنك أديم هذه الأمة فلا تحلم لجاجاً وسيفها العضب فلا تنب أعوجاجاً وماؤها العذب فلا تحل أجاجاً. والله لقد سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا الأمر فقال لي يا أبا بكر هو لمن يرغب عنه لا لمن يجاحش عليه ولمن يتضاءل عنه لا لمن يتنفج إليه هو لمن يقال هو لك لا لمن يقول هو لي. ولقد شاورني رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصهر فذكر فتياناً من قريش فقلت أين أنت من علي فقال صلى الله عليه وسلم: " إني أكره لفاطمة ميعة شبابه وحداثة سنه ". فقلت له: متى كنفته يدك ورعته عينك حفت بهما البركة وأسبغت عليهما النعمة مع كلام كثير خاطبته به رغبة فيك وما كنت عرفت منك في ذلك لا حوجاء ولا لوجاء فقلت ما قلت وأنا أرى مكان غيرك وأجد رائحة سواك وكنت إذ ذاك خيراً لك منك الآن لي ولئن كان عرض بك رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر فلم يمكن معرضاً عن غيرك وإن كان قال فيك فما سكت عن سواك وإن تلجلج في نفسك شيء فهلم فالحكم مرضي والصواب مسموع والحق مطاع. ولقد نقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الله عز وجل و هو عن هذه العصابة راض وعليها حذر: يسره ما سرها ويسوءه ما ساءها ويكيده ما كادها ويرضيه ما أرضاها ويسخطه ما أسخطها. أما تعلم أنه لم يدع أحداً من أصحابه وأقاربه وسجرائه إلا أبانه بفضيلة وخصه بمزية وأفرده بحالة. أتظن أنه صلى الله عليه وسلم ترك الأمة سدى بدداً عباهل مباهل طلاحى مفتونة بالباطل مغبونة عن الحق لا رائد ولا ذائد ولا ضابط ولا حائط ولا ساقي ولا واقي ولا هادي ولا حادي كلا! والله ما اشتاق إلى ربه تعالى ولا سأله المصير إلى رضوانه وقربه إلا بعد أن ضرب المدى وأوضح الهدى وأبان الصوى وأمن المسالك والمطارح وسهل المبارك والمهايع وإلا بعهد أن شدخ يافوخ الشرك بإذن الله وشرم وجه النفاق لوجه الله سبحانه وجدع أنف الفتنة في ذات الله وتفل في عين الشيطان بعون الله وصدع بملء فيه ويده بأمر الله عز وجل. وبعد فهذه المهاجرون والأنصار عندك ومعك في بقعة واحدة ودار جامعة وإن استقالوني لك وأشاروا عندي كب فأنا واضع يدي في يدك وصائر إلى رأيهم فيك. وإن تكن الأخرى فادخل فيما دخل فيه المسلمون وكن العون على مصالحهم والفاتح لمغالقهم والمرشد لضالتهم والرادع لغوايتهم. فقد أمر الله تعالى بالتعاون على البر والتقوى والتناصر على الحق. ودعنا نقضي هذه الحياة الدنيا بصدور بريئة من الغل ونلقى الله تعالى بقلوب سليمة من الضغن. وبعد فالناس ثمامة فارفق بهم واحن عليهم ولن لهم ولا تشق نفسك بنا خاصة فيهم واترك ناجم الحقد حصيداً وطائر الشر واقعاً وباب الفتنة مغلقاً فلا قال ولا قيل ولا لوم ولا تبيع والله على ما نقول شهيد وبما نحن عليه بصير. قال أبو عبيدة: فلما تأهبت للنهوض قال عمر رضي الله عنه: كن لدى الباب هنيهة فلي معك دور من القول فوقفت وما أدري ما كان بعدي إلا أنه لحقني بوجه يندي تهللاً وقال لي: قل لعلي الرقاد محلمة والهوى مقحمة وما منا إلا له مقام معلوم وحق مشاع أو مقسوم ونبأ ظاهر أو مكتوم وإن أكيس الكيس من منح الشارد تألفاً وقارب البعيد تلطفاً ووزن كل شيء بميزانه ولم يخلط خبره بعيانه ولم يجعل فترة مكان شبره ديناً أو دنيا ضلالاً كان أو هدى. ولا خير في علم مستعمل في جهل ولا خير في معرفة مشوبة بنكر. ولسنا كجلدة رفغ البعير بين العجان والذنب وكل صال فبناره وكل سيل إلى قراره. وما كان سكوت هذه العصابة إلى هذه الغاية لعي وشي ولا كلامها اليوم لفرق أو رفق. وقد جدع الله بمحمد صلى الله عليه وسلم أنف كل ذي كبر وقصم ظهر كل جبار وقطع لسان كل كذوب فماذا بعد الحق إلا الضلال. ما هذه الخنزوانة التي في فراش رأسك ما هذا الشجا المعترض في مداج أنفاسك ما هذه القذاة التي تغشت ناظرك وما هذه الوحرة التي أكلت شراسيفك وما هذا الذي لبست بسببه جلد النمر واشتملت عليه بالشحناء والنكر ولسنا في كسروية كسرى ولا في قيصرية قيصر! تأمل لإخوان فارس وأبناء الأصفر! قد جعلهم الله جزراً لسيوفنا ودريئة لرماحنا ومرمى لطعاننا وتبعاً لسلطاننا بل نحن في نور نبوة وضياء رسالة وثمرة حكمة وأثرة رمة وعنوان نعمة وظل عصمة بين أمة مهدية بالحق والصدق مأمونة على الرتق والفتق لها من الله قلب أبي وساعد قوي ويد ناصرة وعين باصرة. أتظن ظناً يا علي أن أبا بكر وثب على هذا الأمر مفتاتاً على الأمة خادعاً لها أو متسلطاً عليها أتراه حل عقودها وأحال عقولها أتراه جعل نهارها ليلاً ووزنها كيلاً ويقظتها رقاداً وصلاحها فساداً لا والله سلا عنها فولهت له وتطامن لها فلصقت به ومال عنها فمالت إليه واشمأز دونها فاشتملت عليه حبوة حباه الله بها وعاقبة بلغه الله إليها ونعمة سربله جمالها ويد أوجب اله عليه شكرها وأمة نظر الله به إليها. والله أعلم بخلقه وأرأف بعباده يختار ما كان لهم الخيرة. وإنك بحيث لا تجهل موضعك من بيت النبوة ومعدن الرسالة ولا يجحد حقك فيما آتاك الله ولكن لك من يزاحمك بمنكب أضخم من منكبك وقرب أمس من قرابتك وسن أعلى من سنك و شبيبة أروع من شبيبتك وسيادة لها أصل في الجاهلية وفرع في الإسلام ومواقف ليس لك فيها جمل ولا ناقة ولا تذكر منها في مقدمة ولا ساقة ولا تضرب فيها بذراع ولا إصبع ولا تخرج منها في مقدمة ولا ساقة ولا تضرب فيها بذراع ولا إصبع ولا تخرج منها ببازل ولا هبع. ولم يزل أبو بكر حبة قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلاقة نفسه وعيبة سره ومفزوع رأيه ومشورته وراحة كفه ومرمق طرفه. وذلك كله بمحضر الصادر والوارد من المهاجرين والأنصار شهرته مغنية عن الدليل عليه. ولعمري إنك أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قرابة ولكنه أقرب منك قربة والقابة لحم ودم والقربة نفس وروح. وهذا فرق عرفه المؤمنون ولذلك صاروا إليه أجمعون ومهما شككت في ذلك فلا تشك أن يد الله مع الجماعة ورضوانه لأهل الطاعة فادخل فيما هون خير لك اليوم وأنفع لك غداً والفظ من فيك ما يعلق بلهاتك وانفث سخيمة صدرك عن تفاتك فإن يك في الأمد طول وفي الأجل فسحة فستأكله مريئاً أو غير مريء وستشربه هنيئاً أو غير هنيء حين لا راد لقولك إلا من كان آيساً منك ولا تابع لك إلا من كان طامعاً فيك يمض إهابك ويعرك أديمك ويزري على هديك. هنالك تقرع السن من ندم وتجرع الماء ممزوجاً بدم وحينئذ تأسى على ما مضى من عمرك ودارج قوتك فتود أن لو سقيت بالكأس التي أبيتها ورددت إلى حالتك التي استغويتها ولله تعالى فينا وفيك أمر هو بالغة وغيب هو شاهده وعاقبة هو المرجو لسرائها وضرائها وهو الولي الحميد الغفور الودود. قال أبو عبيدة فتمشيت متزملاً أنوء كأنما أخطو على رأسي فرقاً من الفرقة وشفقاً على الأمة حتى وصلت إلى علي رضي الله عنه في خلاء فابتثثته بثي كله وبرئت إليه منه ورفقت به. فلما سمعها ووعاها وسرت في مفاصله حمياها قال: لت معلوطه وولت مخروطه وأنشأ يقول: إحدى لياليك فهيسي هيسي لا تنعمي الليلة بالتعريس نعم يا أبا عبيدة أكل هذا في نفس القوم ويحسون به ويضطبعون عليه قال أبو عبيدة: فقلت لا جواب لك عندي إنما أنا قاض حق الدين ورائق فتق المسلمين وساد ثلمة الأمة. يعلم الله ذلك من جلجلان قلبي وقرارة نفسي. فقال علي رضي الله عنه: والله ما كان قعودي في كن هذا البيت قصداً للخلاف ولا إنكاراً للمعروف ولا زراية على مسلم بل لما قد وقذني به رسول الله صلى الله عليه وسلم من فراقه وأودعني من الحزن لفقده. وذلك أنني لم أشهد بعده مشهداً إلا جدد علي حزناً وذكرني شجناً. وإن الشوق إلى اللحاق به كاف عن الطمع في غيره. وقد عكفت على عهد الله أنظر فيه وأجمع ما تفرق رجاء ثواب معد لمن أخلص لله عمله وسلم لعلمه ومشيئته وأمره ونهيه. على أني ما علمت أن التظاهر علي واقع ولا عن الحق الذي سبق إلي دافع وإذ قد أفعم الوادي بي وحشد النادي من أجلي فلا مرحباً بما أساء أحداً من المسلمين وسرني. وفي النفس كلام لولا سابق عقد وسالف عهد لشفيت غيظي بخنصري وبنصري وخضت لجته بأخمصي ومفرقي ولكنني ملجم إلى أن ألقى الله ربي وعنده أحتسب ما نزل بي. وإني غاد إلى جماعتكم مبايع صاحبكم صابر على ما ساءني وسركم " ليقضي الله أمراً كان مفعولاً ". قال أبو عبيدة: فعدت إلى أبي بكر رضي الله عنه فقصصت عليه القول على غره ولم أختزل شيئاً من حلوه ومره وبكرت غدوة إلى المسجد فلما كان صباح يومئذ وإذا علي مخترق الجماعة إلى أبي بكر رضي الله عنهما فبايعه وقال خيراً ووصف جميلاً وجلس زميتاً واستأذن للقيام فمضى وتبعه عمر مكرماً له مستأثراً لما عنده. فقال علي رضي الله عنه: ما قعدت عن صاحبكم كارهاً ولا أتيته فرقاً ولا أقول ما أقول تعلة. ولئني لأعرف منتهى طرفي ومحط قدمي ومنزع قوسي وموقع سهمي ولكن قد أزمت على فأسي ثقة بربي في الدنيا والآخرة. فقال له عمر رضي الله عنه: كفكف غربك واستوقف سربك ودع العصي بلحائها والدلاء على رشائها. فإنا من خلفها وورائها إن قدحنا أورينا وإن متحنا أروينا وإن قرحنا أدمينا ولقد سمعت أماثيلك التي لغزت بها عن صدر أكل بالجوى ولو شئت لقلت على مقالتك ما إن سمعته ندمت على ما قلت. وزعمت أنك قعدت فيكن بيتك لما وقذك به رسول الله صلى الله عليه وسلم من فقده فهو وقذك ولم يقذ غيرك بل مصابه أعظم وأعم من ذلك وإن من حق مصابه أن لا تصدع شمل الجماعة بفرقة لا عصام لها و لا يؤمن كيد الشيطان في بقائها. هذه العرب حولنا واله لو تداعت علينا في صبح نهار لم نلتق في مسائه. وزعمت أن الشوق إلى اللحاق به كاف عن الطمع في غيره! فمن علامة الشوق إليه نصرة دينه. وموازرة أوليائه ومعاونتهم. وزعمت أنك عكفت على عهد الله تجمع ما تفرق منه فمن العكوف على عهد الله النصيحة لعباد الله والرأفة على خلق الله وبذل ما يصلحون به ويرشدون عليه. وزعمت أنك لم تعلم أن التظاهر واقع عليك وأي حق لط دونك. قد سمعت وعلمت ما قال الأنصار بالأمس سراَ وجهراً وتقلبت عليه بطناً وظهراً فهل ذكرت أو أشارت بك أو وجدت رضاهم في نفسه أتظن أن الناس ضلوا من أجلك وعادوا كفاراً زهداً فيك وباعوا الله تحاملاً عليك. لا والله! لقد جاءني عقيل بن زياد الخزرجي في نفر من أصحابه ومعهم شرحبيل بن يعقوب الخزرجي وقالوا: إن علياً ينتظر الإمامة ويزعم أنه أولى بها من غيره وينكر على من يعقد الخلافة فأنكرت عليهم ورددت القول في نحرهم حيث قالوا: إنه ينتظر الوحي ويتوكف مناجاة الملك. فقلت ذاك أمر طواه الله بعد نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أكان الأمر معقوداً بأنشوطه أو مشدوداً بأطراف ليطه كلا! والله لا عجماء بحمد الله إلا أفصحت ولا شوكاء إلا وقد تفتحت. ومن أعجب شأنك قولك: ولولا سالف عهد وسابق عقد لشفيت غيظي وهل ترك الدين لأهله أن يشفوا غيظهم بيد أو بلسان تلك جاهلية وقد استأصل الله شأفتها واقتلع جرثومتها وهور ليلها وغور سيلها وأبدل منها الروح والريحان والهدى والبرهان. وزعمت أنك ملجم ولعمري إن من اتقى الله وآثر رضاه وطلب ما عنده أمسك لسانه وأطبق فاه وجعل سعيه لما وراه. فقال علي رضي الله عنه: مهلاً يا أبا حفص والله ما بذلت ما بذلت وأنا أريد نكثه ولا أقررت ما أقررت وأنا أبتغي حولاً عنه. وإن أخسر الناس صفقة عند الله من آثر النفاق واحتضن الشقاق وفي الله سلوة عن كل حادث وعليه التوكل في جمع الحوادث. ارجع يا أبا حفص إلى مجلسك ناقع القلب مبرود الغليل فسيخ اللبان فصيح اللسان فليس وراء ما سمعت وقلت إلا ما يشد الأزر ويحط الوزر ويضع الإصر ويجمع الألفة بمشيئة الله وحسن توفيقه. قال أبو عبيدة رضي الله عنه: فانصرف علي وعمر رضي الله عنهما. وهذا أصعب ما مر علي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. يروى أنه بلغ عائشة رضي الله عنها أن أقواماً يتناولون أبا بكر رضي الله عنه فأرسلت إلى أرفلة من الناس فلما حضروا أسدلت أستارها وعلت وسادها. ثم قالت: أبي وما أبيه! أبي والله لا تعطوه الأيدي ذاك طود منيف وفرع مديد هيهات كذبت الظنون أنجح إذ أكديتم وسبق إذ ونيتم سبق الجواد إذا استولى على الأمد فتى قريش ناشئاً وكهفها كهلاً يفك عانيها ويرسيش مملقها ويرأب شعبها ويلم شعثها حتى حليته قلوبها ثم استشرى في دين الله فما برحت شكيمته في ذات اله عز وجل حتى اتخذ بفنائه مسجداً يحيى فيه ما أمات المبطلون وكان رحمه الله غزير الدمعة وقيذ الجوانح شجي النشيج فانقضت إليه نسوان مكة وولدانها يسخرون منه ويستهزئون به فقام حاسراً مشمراً فجمع حاشيتيه ورفع قطريه فرد رسن الإسلام على غربه ولم شعثه بطبه وانتاش الدين فنعشه فلما أراح الحق على أهله وقرر الرؤوس على كواهلها وحقن الدماء في أهبها أتته منيته فسد ثلمته بنظيره في الرحمة وشقيقه في السيرة والمعدلة. ذاك ابن الخطاب لله در أم حملت به ودرت عليه! لقد أوجدت به ففنخ الكفرة ودبخها وشرد الشرك شذر مذر وبعج الأرض وبخعها فقاءت أكلها ولفظت خبأها ترأمه ويصدف عنها وتصدى له ويأباها. ثم وزع فيها فيأها وودعها كما صحبها. فأروني ماذا ترتؤون وأي يومي أبي تنقمون: أيوم إقامته إذ عدل فيكم أم يوم ظعنه إذ نظر لكم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. ثم أقبلت على الناس بوجهها فقالت أنشدكم الله هل أنكرتم مما قلت شيئاً قالوا اللهم لا. ومن ذلك كلام أم الخير بنت الحريش البارقية يوم صفين في الانتصار لعلي رضي الله عنه. يروى أن معاوية كتب إلى واليه بالكوفة أن يحمل إليه أم الخير بنت الحريش البارقية برحلها وأعلمه أنه مجازيه بقولها فيه بالخير خيراً وبالشر شراً فلما ورد عليه كتابه وركب إليها فأقرأها الكتاب فقالت: أما أنا فغير زائغة عن طاعة ولا معتلة بكذب! ولقد كنت أحب لقاء أمير المؤمنين لأمور زائغة عن طاعة ولا معتلة بكذب! ولقد كنت أحب لقاء أمير المؤمنين لأمور تختلج في صدري. فلما شيعها وأراد مفارقتها قال لها: يا أم الخير إن أمير المؤمنين كتب إلي أنه يجازيني بقولك في بالخير خيراً وبالشر شراً فما عندك قالت: يا هذا لا يطمعنك برك بي أن أسرك بباطل ولا تويسك معرفتي بك أن أقول فيك غير الحق. فسارت خير مسير حتى قدمت على معاوية فأنزلها مع حريمه ثم أدخلها عليه في اليوم الرابع وعنده جلساؤه فقالت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. قال لها وعليك السلام يا أم الخير وبالرغم منك دعوتيني بهذا الاسم. قالت مه يا أمير المؤمنين! فإن بديهة السلطان مدحضة لما يجب علمه قال صدقت. فكيف حالك يا خالة وكيف كنت في مسيرك قالت لم أزل في عافية وسلامة حتى صرت إليك فأنا في مجلس أنيق عند ملك رفيق. - قال معاوية: بحسن نيتي ظفرت بكم - قالت يا أمير المؤمنين أعيذك بالله من دحض المقال وما تردي عاقبته! قال ليس هذا أردنا. أخبريني كيف كان كلامك يوم قتل عمار بن ياسر قالت لم أكن والله زورته قبل ولا رويته بعد. وإنما كانت كلمات نفثهن لساني حين الصدمة فإن شئت أن أحدث لك مقالاً غير ذلك فعلت. - قال لا أشاء ذلك. ثم التفت إلى أصحابه فقال أيكم يحفظ كلام أم الخير فقال رجل من القوم أنا أحفظه يا أمير المؤمنين كحفظي سورة الحمد - قال هاته قال: نعم كأني بها يا أمير المؤمنين في ذلك اليوم عليها برد زبيدي كثيف الحاشية وهي على جمل أرمك وقد أحيط ولها وبيدها سوط منتشر الظفر وهي كالفحل يهدر في شقشقته إن الله قد أوضح الحق وأبان الدليل ونور السبيل ورفع العلم فلم يدعكم في عمياء مبهمة ولا سوداء مدلهمة فإلى أين تريدون رحمكم الله. أفراراً عن أمير المؤمنين أم فراراً من الزحف أم رغبة عن الإسلام أم ارتداداً عن الحق. أما سمعتم الله عز و جل يقول: ثم رفعت رأسها إلى السماء وهي تقول: قد عيل الصبر وضعف اليقين وانتشرت الرغبة وبيدك يا رب أزمة القلوب فاجمع الكلمة على التقوى وألف القلوب على الهدى هلموا رحمكم الله إلى الإمام العادل والوصي الوفي والصديق الأكبر! إنها إحن بدرية وأحقاد جاهلية وضغائن أحدية وثب بها معاوية حين الغفلة ليدرك بها ثارات بني عبد شمس. ثم قالت صبراً معشر المهاجرين والأنصار قاتلوا على بصيرة من ربكم وثبات من دينكم وكأني بكم غداً قد لقيتم أهل الشأم كحمر مستنفرة فرت من قسورة. لا تدري أين يسلك بها من فجاج الأرض باعوا الآخرة بالدنيا واشتروا الضلالة بالهدى وباعوا البصيرة بالعمى وعماً قليل ليصبحن نادمين حين تحل بهم الندامة فيطلبون الإقالة! إنه والله من ضل عن الحق وقع في الباطل ومن لم يسكن الجنة نزل في النار. أيها الناس إن الأكياس استقصروا عمر الدنيا فرفضوها واسبطأوا مدة الآخرة فسعوا لها. والله أيها الناس لولا أن تبطل الحقوق وتعطل الحدود ويظهر الظالمون وتقوى كلمة الشيطان لما اخترنا ورود المنايا على خفض العيش وطيبه فإلى أين تريدون رحمكم الله عن ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوج ابنته وأبي ابنيه خلق من طينته وتفرع عن نبعته وخصه بسره وجعله باب مدينته واعلم بحبه المسلمين وأبان ببغضه المنافقين. فلم يزل كذلك يؤيده الله بمعونته ويمضي على سنن استقامته لا يعرج لراحة اللذات وهو مفلق الهام ومكسر الأصنام إذ صلى والناس مشركون وأطاع والناس مرتابون. فلم يزل كذلك حتى قتل مبارزي بدر وأفنى أهل أحد وفرق جمع هوازن فيا لها وقائع! زرعت في قلوب قوم نفاقاً وردة وشقاقاً وقد اجتهدت في القول وبالغت في النصيحة وبالله التوفيق والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. فقال معاوية: والله يا أم الخير ما أردت بهذا إلا قتلي! والله لو تقلتك ما حرجت في ذلك. قالت: والله ما يسوءني يا بن هند أن يجري الله ذلك على يدي من يسعدني الله بشقائه - قال هيهات يا كثيرة الفضول ما تقولين في عثمان بن عفان - قالت وما عسيت أن أقول فيه: استخلفه الناس وهم كارهون وقتلوه وهم راضون. - فقال إيهاً يا أم الخير هذا والله أصلك الذي تبنين عليه - قالت لكن الله يشهد وكفى بالله شهيداً ما أردت بعثمان نقصاً ولقد كان سباقاً إلى الخيرات وإنه لرفيع الدرجات. - قال فما تقولين في طلحة بن عبيد الله - قالت وما عسى أن أقول في طلحة! أغتيل من مأمنه وأتي من حيث لم يحذر وقد وعده رسول الله صلى الله عليه وسلم الجنة. - قال فما تقولين في الزبير - قالت يا هذا لا تدعني كرجيع الضبع يعرك في المركن. - قال حقاً لتقولن ذلك وقد عزمت عليك - قالت وما عسيت أن أقول في الزبير ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحواريه وقد شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة ولقد كان سباقاً إلى كل مكرمة في الإسلام. وإني أسألك بحق الله يا معاوية فإن قريشاً تحدث أنك من أحلمها أن تسعني بفضل حلمك وأن تعفيني من هذه المسائل وامض لما شئت من غيرها قال نعم وكرامة قد أعفيتك وردها مكرمة إلى بلدها. ونحو ذلك كلام الزرقاء بنت عدي بن قيس الهمدانية يوم صفين أيضاً. يروى أنها ذكرت عند معاوية يوماً فقال لجلسائه أيكم يحفظ كلامها - قال بعضهم نحن نحفظه يا أمير المؤمنين - قال فأشيروا علي في أمرها فأشار بعضهم بقتلها - فقال بئس الرأي! أيحسن بمثلي أن يقتل امرأة. ثم كتب إلى عامله بالكوفة أن يوفدها إليه مع ثقة من ذوي محرمها وعدة من فرسان قومها وأن يمهد لها وطاءً ليناً ويسترها بستر خصيف ويوسع لها في النفقة. فلما دخلت على معاوية قال مرحباً بك وأهلاً! قدمت خير مقدم قدمه وافد كيف حالك - قالت بخير يا أمير المؤمنين أدام الله لك النعمة! - قال كيف كنت في مسيرك قالت ربيبة بيت أو طفلاً ممهداً - قال بذلك أمرناهم. أتدرين فيم بعثت إليك - قالت وأنى لي بعلم ما لم أعلم وما يعلم الغيب إلا الله عز وجل - قال ألست الراكبة الجمل الأحمر والواقفة بين الصفين بصفين تحضين الناس على القتال وتوقدين الحرب فما حملك على ذلك - قالت يا أمير المؤمنين مات الرأس وبتر الذنب ولن يعود ما ذهب والدهر ذو غيرن ومن تفكر أبصر والأمر يحدث بعده الأمر. - قال لها معاوية أتحفظين كلامك يومئذ - قالت: لا والله ولقد نسيته. - قال لكني أحفظه لله أبوك حين تقولين: أيها الناس ارعوا وارجعوا! إنكم أصبحتم في فتنة غشتكم جحلابيب الظلم وجارت بكم عن قصد المحجة. فيا لها فتنة عمياء صماء بكماء لا تسمع لناعقها ولا تسلس لقائدها. إن المصباح لا يضيء في الشمس والكواكب لا تنير مع القمر ولا يقطع الحديد إلا الحديد. ألا من استرشد أرشدناه ومن سألنا أخبرناه. أيها الناس إن الحق كان يطلب ضالته فأصابها فصبراً يا معاشر المهاجرين والأنصار على الغصص فكأن قد اندمل شعب الشتات والتأمت كلمة التقوى ودمغ الحق باطله! فلا يجهلن أحد فيقول كيف العدل وأني: ليقضي الله أمراً كان مفعولاً. ألا وإن خضاب النساء الحناء وخضاب الرجال الدماء! ولهذا اليوم ما بعده والصبر خير في عواقب الأمور. إيهاً لحرب قدماً غير ناكصين ولا متشاكسين. ثم قال لها يا زرقاء لقد شركت علياً في كل دم سفكه - قالت أحسن الله بشارتك وأدام سلامتك فمثلك من بشر بخير وسر جليسه - قال ويسرك ذلك - قالت: نعم سررت بالخبر فأنى لي بتصديق الفعل فضحك معاوية وقال: لوفاؤكم له بعد موته أعجب عندي من حبكم له في حياته! اذكري حاجتك. قالت يا أمير المؤمنين آليت على نفسي أن لا أسأل أميراً أعنت عليه أبداً ومثلك من أعطى من غير مسألة وجاد من غير طلبة - قال صدقت وأمر لها وللذين جاءوا معها بجوائز وكساً. وقريب من ذلك كلام عكرشة بنت الأطرش يوم صفين أيضاً. يروى أنها دخلت على معاوية متوكثة على عكاز لها فسلمت عليه بالخلافة ثم جلست - فقال لها معاوية: الآن صرت عندك أمير المؤمنين قالت: نعم إذ لا علي حي! - قال ألست المتقلدة حمائل السيف بصفين وأنت إذا اهتديتم. إن الجنة لا يحزن من قطنها ولا يهرم من سكنها ولا يموت من دخلها فابتاعوها بدار لا يدوم نعيمها ولا تنصرم همومها وكونوا قوماً مسبتصرين في دينهم مستظهرين على حقهم إن معاوية دلف إليكم بعجم العرب لا يفقهون الإيمان ولا يدرون ما الحكمة. دعاهم إلى الباطل فأجابوه واستدعاهم إلى الدنيا فلبوه فالله الله عباد الله في دين الله! وإياكم والتواكل فإن ذلك ينقض عرى الإسلام ويطفئ نور الحق. هذه بدر الصغرى والعقبة الأخرى يا معشر المهاجرين والأنصار امضوا على بصيرتكم واصبروا على عزيمتكم. فكأني بكم غداً وقد لقيتم أهل الشام كالحمر الناهقة تقصع قصع البعير. ثم قال: فكأني أراك على عصاك هذه قد انكفأ عليك العسكران يقولون هذه عكرشة بنت الأطرش فإن كدت لتفلين أهل الشام لولا قدر الله وكان أمر الله قدراً مقدوراً فما حملك على ذلك - قالت يا أمير المؤمنين يقول الله جل ذكره فإن كان عن رأيك فمثلك من انتبه من الغفلة وراجع التوبة وإن كان عن غير رأيك فما مثلك من استعان بالخونة ولا استعمل الظلمة - قال معاوية: يا هذه إنه ينوبنا من أمور رعيتنا ثغور تتفتق وبحور تتدفق. - قالت سبحان الله! والله ما فرض الله لنا حقاً فجعل فيه ضراراً لغيرنا وهو علام الغيوب - قال معاوية هيهات يا أهل العراق نبهكم علي فلن والشاهد في هذه الحكايات كلام هؤلاء النسوة مع ما فيها: من المراجعات والمخاطبات والمقاولات والمحاورات الصالة للاستشهاد للفصل المتقدم قبل ذلك. وهذا باب متسع لا يسع اسيتفاؤه ولا يمكن استيعابه وفيما ذكرنا مقنع. ومن ذلك ما روي أن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أرسل إلى معاوية بالشام كتاباً صحبة صعصعة بن صوحان فسار به حتى أتى دمشق فأتى باب معاوية فقال لآذنه: استأذن لرسول أمير المؤمنين علي بن أبي المؤمنين. وكثرت عليه الجلبة فاتصل ذلك بمعاوية فأذن له فدخل عليه فقال السلام عليك يا بن أبي سفيان! هذا كتاب أمير المؤمنين - فقال معاوية أما إنه لو كانت الرسل تقتل في جاهلية أو إسلام لقتلتك. ثم اعترضه معاوية في الكلام وأراد أن يستخبره ليعرف طبعاً أم تكلفاً - فقال له ممن الرجل - قال من نزار - قال وما كان نزار قال كان إذا غزا انكمش وإذا لقى افترش وإذا انصرف احترش. قال فمن أي أولاده أنت - قال من ربيعة - قال وما كان ربيعة - قال: كان يطيل النجاد ويعول العباد ويضرب ببقاع الأرض العماد - قال: فمن أي أولاده أنت - قال من جديلة - قال وما كان جديلة - قال كان في الحرب سيفاً قاطعاً وفي المكرمات غيثاً نافعاً وفي اللقاء لهباً ساطعاً - قال فمن أي أولاده أنت - قال: من عبد القيس - قال وما كان عبد القيس - قال: كان حسناً أبيض وهاباً يقدم لضيفه ما وجد ولا يسأل عما فقد كثير المرق طيب العرق يقوم للناس مقام الغيث من السماء - قال ويحك يا ابن صوحان! فما تركت لهذا الحي من قريش مجداً ولا فخراً - قال بلى والله يا بن أبي سفيان! تركت لهم ما لا يصلح إلا لهم تركت لهم الأحمر والأبيض والأصفر والسرير والمنبر وأملك إلى المحشر ففرح معاوية وظن أن كلامه يشتمل على قريش كلها قال صدقت يا ابن صوحان إن ذلك لكذلك فعرف صعصعة ما أراد فقال ليس لك ولا لقومك في ذلك إصدار ولا إيراد. بعدتم عن أنف المرعى وعلوتم عن عذب الماء - قال ولم ذلك ويلك يا ابن صوحان! فقال الويل لأهل النار ذلك لبني هاشم - قال قم! فأخرجوه - فقال صعصعة: الوعد بيني وبينك لا الوعيد من أراد المناجزة يقبل المحاجزة - فقال معاوية: لشيء ما سوده قومه ووددت أني من صلبه ثم التفت إلى بني أمية فقال: هكذا فلتكن الرجال. ومن ذلك ما روي أن سعيد بن عثمان بن عفان رضي الله عنه دخل على معاوية وابنه يزيد إلى جانبه فقال له: ائتمنك أبي واصطنعك حتى بلغك باصطناعه إياك المدى الذي لا يجارى والغاية التي لا تسامى فما جازيت أبي بآلائه حتى قدمت هذا علي وجعلت له الأمر دوني. وأومأ إلى يزيد والله لأبي خير من أبيه وأمي خير من أمه ولأنا خير منه! - فقال هل معاوية: أما ما ذكرت يا ابن أخي من تواتر آلائكم علي وتظاهر نعمائكم لدي فقد كان ذلك ووجب علي المكافأة والمجازاة وكان من شكري إياه أن طلبت بدمه حتى كابدت أهوال البلاء وغشيت عساكر المنايا إلى أن شفيت حزازات الصدور وتجلت تلك الأمور. ولست لنفسي باللائم في التشمير ولا الزاري عليها في التقصير. وذكرت أن أباك خير من أبي هذا - وأشار بيده إلى يزيد - فصدقت لعمر الله لعثمان خير ن معاوية! أكرم كريماً وأفضل قديماً وأقرب إلى محمد صلى الله عليه وسلم رحماً. وذكرت أن أمك خير من أمه فلعمري إ امرأة من قريش خير من امرأة من بني كلب. وذكرت أنك خير من يزيد فوالله يا بن أخي ما يسرني أن الغوطة عليها رجال مثل يزيد. فقال له يزيد مه يا أمير المؤمنين! ابن أخيك استعمل الدالة عليك واستعتبك لنفسه واستزاد منك فزده وأجمل له في ردك واحمل على نفسك ووله خراسان بشفاعتي وأعنه بمال يظهر به موروثه فولاه معاوية خراسان و أجاز بمائة ألف درهم فكان ذلك أعجب ما ظهر من حلم يزيد. ومن ذلك ما يروى أن زيد بن منبه قدم على معاوية فشكا إليه ديناً لزمه فأعطاه ستين ألف درهم وكان عتبة بن أبي سفيان قد تزوج ابنة يعلى أخي زيد بن منبه وهو يومئذ عامل بمصر - فقال له معاوية: الحق بصهرك يعني عتبة فقدم عليه مصر فقال: إني سرت إليك شهرين أخوض فيهما المتالف: ألبس أردية الليل مرة وأخوض في لجج السراب أخرى موقراً من حسن الظن بك وهارباً من دهر قطم ودين أزم بعد غنى جدعنا به أنوف الحاسدين فلم أجد إلا إليك مهرباً وعليك معولاً - فقال عتبة: مرحباً بك وأهلاً! إن الدهر أعاركم غنى وخلطكم بنا ثم استرد وأخذ ما أمكنه أخذه وقد أبقى لكم منا ما لا ضيقة معه وأنا رافع إليك يدي بيد الله فأعطاه ستين ألفاً كما أعطاه معاوية. ومن ذلك ما يحكى أن عبد العزى بن زرارة وفد على معاوية وهو سيد أهل الوبر فلما أذن له وقف بين يديه وقال يا أمير المؤمنين! لم أزل أهز ذوائب الرجاء بالآثار يقودني إليك أمل ويسوقني إليك بلوى والمجتهد يعذر وإذ بلغتك فقط. فقال معاوية فاحطط عن راحلتك رحلها. وخرج عبد العزى هذا مع يزيد بن معاوية إلى الصائفة وأبوه زرارة عند معاوية فهلك هناك. فكتب يزيد إلى أبيه معاوية بذلك - فقال معاوية لزرارة: أتاني اليوم نعي سيد شباب العرب - قال زرارة يا أمير المؤمنين هو ابني أو ابنك - قال بل ابنك فقال " للموت ما تلد الوالدة ". أخذ بعضهم هذا المعنى فقال: وللموت تغذو الوالدات سخالها كما لخراب الدهر تبنى المساكن ومن ذلك ما يروى أن مروان بن الحكم وهو وال على المدينة في خلافة معاوية حبس غلاماً من بني ليث في جناية جناها بالمدينة فأتته جدة الغلام وهي سنان بنت جشمية بن خرشة المذحجية فكلمته في الغلام فأغلظ لها مروان فخرجت إلى معاوية فدخلت عليه فانتسبت له فعرفها فقال: مرحباً بابنة جشمية ما أقدمك أرضنا وقد عهدتك تشتمينا وتحضين علينا عدونا قالت: يا أمير المؤمنين! إن لبني عبد مناف أخلاقاً طاهرة وأعلاماً ظاهرة لا يجهلون بعد علم ولا يسفهون بعد حلم ولا يشتمون بعد عفو وإن أولى الناس باتباع ما سن آباؤه لأنت قال: صدقت نحن كذلك فكيف قولك: عزب الرقاد فمقلتي لا ترقد والليل يصدر بالهموم ويورد يا آل مذحج لا مقام فشمروا إن العدو لآل مذحج يقصد هذا علي كالهلال تحفه وسط السماء من الكواكب أسعد خير الخلائق وابن عم محمد إن يهدكم بالنور منه تهتدوا ما زال مذ شهد الحروب مظفراً والنصر فوق لوائه ما يفقد قالت قد كان ذلك يا أمير المؤمنين وأرجو أن تكون لنا خلفاً بعده فقال رجل من جلسائه كيف يا أمير المؤمنين وهي القائلة: إما هلكت أبا الحسين فلم تزل بالحق تعرف هادياً مهدياً قد كنت بعد محمد خلفاً لنا أوصى إليك بنا وكنت وفيا واليوم لا حلف يؤمل بعده هيهات نأمل بعده إنسيا قالت يا أمير المؤمنين: لسان نطق وقول صدق ولئن تحقق فيك ما ظنناه فحظك الأوفر والله ما أورثك الشنآن في قلوب المسلمين إلا هؤلاء فأدحض مقالتهم وأبعد منزلتهم فإنك إن فعلت ذلك تزدد من الله قرباً ومن المسلمين حباً. قال وإنك لتقولين ذلك قالت: سبحان الله! والله ما مثلك من مدح بباطل ولا اعتذر إليه بكذب وإنك لتعلم ذلك من رأينا وضمير قلبنا كان علي والله أحب إلينا منك وأنت أحب إلينا من غيرك. قال ممن. قالت من مروان وسعيد بن العاص - قال وبم استحققت ذلك عند - قالت بسعة حلمك وكريم عفوك - قال وإنهما يطمعان في ذلك - قالت هما والله من الرأي على ما كنت عليه لعثمان بن عفان - قال لقد قاربت فما حاجتك - قالت: يا أمير المؤمنين! إن مروان تبنك في المدينة تبنك من لا يريد منها البراح لا يحكم بعدل ولا يقضي بسنة يتبع عورات المؤمنين حبس ابن ابني فأتيته فقال كيت وكيت فأسمعته أخشن من الحجر وألقمته أمر من الصبر ثم رجعت إلى نفسي باللائمة وقلت لم لا أصرف ذلك إلى من هو أولى بالعفو منه فأتيتك يا أمير المؤمنين لتكون في أمري ناظراً وعليه معدياً - قال صدقت لا أسألك عن ذنبه والقيام بحجته اكتبوا لها بإطلاقه - قالت يا أمير المؤمنين وأنى بالرجعة وقد نفد زادي وكلت راحلتي فأمر لها براحلة موطاة وخمسة آلاف درهم. ومن ذلك ما روي أن معاوية حج فسأل عن امرأة من بني كنانة كانت تنزل الحجون يقال لها الدارمية وكان سوداء كثيرة اللحم فأخبر بسلامتها فجئ بها فقال ما حالك يا ابنة حام قالت لست لحام أدعى إن عبتني أنا امرأة من بني كنانة قال: صدقت أتدرين لم أرسلت إليك قالت لا يعلم الغيب إلا الله قال: بعثت إليك لأسألك علام أحببت علياً وأبغضتيني وواليتيه وعاديتيني قالت أو تعفيني يا أمير المؤمنين قال لا أعفيك - قالت أما إذا أبيت فإني أحببت علياً على عدله في الرعية وقسمه بالسوية وأبغضتك على قتالك من هو أولى بالأمر منك وطلبك ما ليس لك بحق وواليت علياً على ما عقد له من الولاية وعلى حبه المساكين وإعظامه لأهل الدين وعاديتك على سفكك الدماء وجورك في القضاء وحكمك بالهوى - قال: ولذلك أنتفخ بطنك وعظم ثدياك وربت عجيزتك - قالت يا هذا بهند كانت تضرب الأمثال لا بي - قال يا هذه أبعي فإنا لم نقل إلا خيراً إنه إذا انتفخ بطن المرأة تم خلق ولدها وإذا عظم ثدياها تروي رضيعها وإذا عظمت عجيزتها رزن مجلسها فرجعت وسكنت - قال لها فهل رأيت علياً قالت لقد كنت رأيته - قال كيف كنت رأيتيه قالت رأيته لم يفتنه الملك الذي فتنك ولم تشغله النعمة التي شغلتك - قال لها: فهل سمعت كلامه قالت: نعم والله كان يجلو القلوب من العمى كما يجلو الزيت الطست من الصدإ - قال: صدقت فهل لك من حاجة قالت: وتفعل إذا سألتك قال نعم - قالت: تعطيني مائة ناقة حمراء فيها فحلها وراعيها - قال تصنعين بها ماذا - قالت أغذي بألبانها الصغار وأستحبي بها الكبار وأصلح بها بين العشائر - قال فإن أعطيتك ذلك فهل أحل عندك محل علي - قالت ماء ولا كصداء ومرعى ولا كالسعدان وفتى ولا كمالك يا سبحان الله أودونه! فأنشأ معاوية يقول: إذا لم أعد بالحلم مني إليكم فمن ذا الذي بعدي يؤمل للحلم خذيها هنيئاً واذكري فعل ماجد جزاك على حرب العداوة بالسلم ثم قال: أما والله! لو كان علياً ما أعطاك منها شيئاً. قالت والله ولا وبرة واحدة من مال المسلمين. ومن ذلك ما يروى أن أم البراء بنت صفوان استأذنت على معاوية فأذن لها فدخلت عليه وعليها ثلاثة دروع برود تسحبها ذراعاً قد لاثت على رأسها كوراً كالمنسف فسلمت وجلست فقال لها معاوية كيف أنت يا ابنة صفوان - قالت بخير يا أمير المؤمنين - قال كيف حالك - قالت كسلت بعد نشاط - قال شتان بينك اليوم وحين تقولين: أسرج جوادك مسرعاً ومشرماً للحرب غير معود لفرار أجب الإمام وذب تحت لوائه والق العدو بصارم بتار يا ليتني أصبحت لست قعيدة فأذب عنه عساكر الفجار قالت قد كان ذلك ومثلك من عفا عما سلف قال هيهات أما والله لو عاد لعدت ولكنه اخترم منك. قالت أجل والله إني لعلى بينة من ربي وهدى من أمري قال كيف كان قولك حين قتل قالت أنسيته. قال بعض جلسائه هو والله حين تقول: يا للرجال لعظم هول مصيبة فدحت فليس مصابها بالحائل الشمس كاسفة لفقد إمامنا خير الخلائق والإمام العادل حاشى النبي لقد هددت قواءنا فالحق أصبح خاضعاً للباطل فقال معاوية: قاتلك الله فما تركت مقالاً لقائل اذكري حاجتك! قالت أما الآن فلا وقامت فعثرت فقالت تعس شانيء علي! فقال زعمت أن لا قالت هو كما علمت فلما كان من الغد بعث إليها بجائزة وقال إذا ضيعت الحلم فمن يحفظه. ومن ذلك أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عدي بن أرطاة: أن اجمع بين إياس بن معاوية والقاسم بن ربيعة فول القضاء أنفذهما فجمع بينهما وكانا غير راغبين في القضاء. فقال إياس: أيها الرجل سل عني وعن القاسم فقيهي المصر الحسن وابن سيرين وكان القاسم يأتي الحسن وابن سيرين وإياس لا يأتيهما فعلم القاسم أنه إن سألهما عنه أشار به فقال له. : لا تسأل عني ولا عنه فوالله الذي لا إله إلا هو إن إياس بن معاوية أفه مني وأعلم بالقضاء فإن كنت كاذباً فما أشير عليك أن توليني وأنا كاذب وإن كنت صادقاً فينبغي لك أن تقبل قولي قال له إياس: إنك جئت برجل فوقفت به على شفير جهنم فنجى نفسه منها بيمين كاذبة يستغفر الله منها وينجو مما كان قال له عدي: إذا فهمتها فأنت لها فاستقضاه ومن ذلك: ما حكاه صاحب العقد عن زياد عن مالك بن أنس قال: خطب أبو جعفر المنصور فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس اتقوا الله! فقام إليه رجل من عرض الناس فقال أذكرك الذي ذكرتنا به فأجابه أبو جعفر بلا فكر ولا روية: سمعاً لمن ذكر بالله وأعوذ بالله أن أذكرك به وأنساه فتأخذني العزة بالإثم! لقد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين وأما أنت فوالله ما الله أردت بهذا ولكن يقال قام فقال: فعوقب فصبر وأهون بها لو كانت وأنا أنذركم أيها الناس أختها فإن الموعظة علينا نزلت وفينا أنبثت. ثم رجع إلى مكانه من الخطبة. ومن ذلك: ما يحكى عن الربيع قال: كنا وقوفاً على رأس المنصور وقد طرحت للمهدي بن المنصور وسادة إذ أقبل صالح بن المنصور وكان قد رشحه أن يوليه بعض أمره فقام بين السماطين والناس على قدر أنسابهم ومواضعهم فتكلم فأجاد فمد المنصور يده إليه ثم قال يا بني! واعتنقه ونظر في وجوه أصحابه هل فيهم أحد يذكر مقامه ويصف فضله فكلهم كره ذلك وهاب المهدي فقام شبة بن عقال التميمي فقال: لله در خطيب قام عندك يا أمير المؤمنين! ما أفصح لسانه! وأحسن بيانه! وأمضى جنانه! وأبل ريقه! وأسهل طريقه!. وكيف لا يكون كذلك وأمير المؤمنين أبوه والمهدي أخوه وهو كما قال زهير بن أبي سلمى: يطلب شأو امرأين قدما حسناً بذا الملوك وبذا هذه السوقا هو الجواد فإن يلحق بشأوهما على تكاليف فمثله لحقا أو يسبقاه على ما كان من مهل فمثل ما قدما من صالح سبقا قال الربيع: فأقبل علي بعض من حضر وقال والله ما رأيت مثل هذا تخلصاً أرضى أمير المؤمنين ومدح الغلام وسلم من المهدي. فالتفت إلي المنصور وقال: يا ربيع لا ينصرف التميمي إلا بثلاثين ألف درهم. ومن ذلك ما حكي أن رجلاً دخل على المهدي ولي عهد المنصور فقال يا أمير المؤمنين إن أمير المؤمنين المنصور شتمني وقذف أمي فإما أمرتني أن أحلله وإما عوضتني فاستغفرت له. قال قال إبراهيم بن عبد الله بن حسن: قال إن إبراهيم أمس به رحماً وأوجب عليه حقاً فإن كان شتمك كما زعمت فعن رحمه ذب وعن عرضه دفع وما أساء من انتصر لابن عمه. قال فإنه كان عدوه. قال فلم ينتصر للعدواة إنما انتصر للرحم فأسكت الرجل فلما ذهب ليولي قال: لعلك أردت أمراً فلم تجد له ذريعة عندك أبلغ من هذه الدعوى قال نعم فتبسم وأمر له بخمسة آلاف درهم. ومن ذلك ما حكي: أن المنتصر قال لبعض قواده: صدق الذي قال أجع كلبك يتبعك فقال له أبو العباس الطوسي: أما تخشى يا أمير المؤمنين أن يلوح غيرك رغيفاً فيتبعه ويدعك. ومن ذلك ما يحكى: أنه وفد أهل الحجاز من قريش على هشام بن عبد الملك بن مروان وفيهم محمد بن أبي الجهم بن حذيفة العدوي وكان أعظمهم قدراً وأكبرهم سناً فقال: أصلح الله أمير المؤمنين إن خطباء قريش قد قالت فيك وأقلت وأكثرت وأطنبت وما بلغ قائلهم قدرك ولا أحصى مطنبهم فضلك وإن أذنت في القول قلت: قال قل وأوجز. قال تولاك الله يا أمير المؤمنين بالحسنى وزينك بالتقوى وجمع لك خير الآخرة والأولى! إن لي حوائج أفأذكرها قال هاتها. قال كبر سني ودق عظمي ونال الدهر مني فإن رأى أمير المؤمنين أن يجبر كسرى وينفي فقري. قال: وما الذي ينفي فقرك ويجبر كسرك قال ألف دينار وألف دينار وألف دينار. فأطرق هشام طويلاً ثم قال: هيهات يا ابن أبي الجهم بيت المال لا يحتمل ما سألت. فقال: أما إن الأمر لواحد ولكن الله آثرك لمجلسك فإن تعطنا فحقنا أديت وإن تمنعنا نسأل الذيب بيده ما حويت إن الله جعل العطاء محبة والمنع مبغضة ولأن أحبك أحب إلي من أن أبغضك. قال: فألف دينار لماذا قال أقضي بها ديناً قد حم قضاؤه وحناني حمله وأضربي أهله. قال: فلا بأس تنفس كربة و تؤدي أمانة وألف دينار لماذا قال أزوج بها من بلغ من ولدي. قال: نعم المسلك سلكت أغضضت بصراً وأعففت ذكراً وروجت نسلاً وألف دينار لماذا قال أشتري بها أرضاً يعيش بها ولدي واستعين بفضلها على نوائب دهري وتكون ذخراً لمن بعدي قال: فإنا قد أمرنا لك بما سألت. قال فالمحمود الله على ذلك وخرج. فقال هشام: ما رأيت رجلاً أوجز في مقال ولا أبلغ في بيان منه وإنا لنعرف الحق إذا نزل ونكره الإسراف والبخل وما نعطي تبذيراً ولا نمنع تقتيراً وما نحن إلا خزان الله في بلاده وأمناؤه على عباده فإن أذن أعطينا وإذا رددنا سائلاً فنسأل الذي بيده ما استحفظنا أن يجريه على أيدينا فإنه يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه كان بعباده خبيراً بصيراً. فقالوا يا أمير المؤمنين لقد تكلمت فأبلغت وما بلغ في كلامه ما قصصت فقال إنه مبتدى وليس والمبتدي كالمقتدي. والحكايات والأخبار في ذلك كثيرة والإطناب يخرج عن المقصود ويؤدي إلى الملال وفيما ذكرنا المقصد الثالث في كيفية تصرف الكاتب في مثل هذه المكاتبات والرسائل غير خاف على من تعاطى صناعة النثر والنظم أنه لا يستقل أحد باستخراج جميع المعاني بنفسه ولا يستغني عن النظر في كلام من تقدمه: لاقتباس ما فيه من المعاني الرائقة والألفاظ الفائقة مع معرفة ترتيب أهل كل زمن واصطلاحهم فينسج على منوالهم أو يقترح طريقة تخالفهم وتوارد الكتاب والشعراء على المعاني غير مجهول فإن التوارد يقع في الشعر الذي هو مبني على أصل واحد من وزن وقافية فإنه إذا وقف على المعنى وترتيب الكلام عرف كيف ينسج الكلام مثل أن يكتب في تهنئة بمولود: قد جعلك الله من نبعة طابت مغارسها ورسخت عروقها فالزيادة فيها زيادة في جوهر الكرم وذخيرة نفيسة لذوي الإقبال فتولى الله نعمه عندك بالحراسة الوافية والولاية الكافية. وقد بلغني الخبر بحدوث الولد المبارك والفرع الطيب الذي عمر أفنية السادة وأضحك مطلع السعادة فتباشرت بذلك وابتهجت به فجعله الله براً تقياً سعيداً حميداً يتقيل سلفه ويقتفي أثرهم وأيمن به عددك وكثر به ذريتك و أوزعك الشكر عليه وأجارك فيه من الثكل برحمته. فيأخذ آخر المعنى ويورده بألفاظ أخرى فيقول: قد جعلك الله من شجرة زكت غصونها وفرع شرفت منابته فالنمو فيها نعمة كاملة السعادة وغبطة شاملة السرور فتولى فضله عليك بالحفاظ الراعي والدفاع الكالي وقد اتصل بي خبر السليل الرضي والولد الصالح الذي حدد فوائد السيادة وثبت أساس الرفعة فاغتبطت به واستبشرت جعله الله تعالى ولداً ميموناً ونجلاً سعيداً يسلك مناهج سلفه ويحذو في المحاسن حذوهم وزاد به في ثروتك وأراك فيه غاية أملك وسرك بوجوده وأسعدك برؤيته. فالمعنى والفصل واحد والألفاظ مختلفة. وكذلك ما يجري هذا المجرى وما في معناه. قلت: ولا ينهض بمثل ذلك إلا من رسخت في صنعة الكتابة قدمه وامتزج بأجزاء الفصاحة والبلاغة لحمه ودمه وهذا المنهج هو أحد أنواع الإعجاز في القرآن الكريم فإن القصة الواحدة تتكرر فيه مراراً في سور متعددة ترد في كل سورة بلفظ وتركيب غير الذي وردت به في الأخرى مع استيفاء حد البلاغة ونهاية أمد الفصاحة ولذلك قل من سلك هذا المنهج أو ارتقى هذه الذروة وقد أتى علي بن حمزة بن طلحة في كتابه الاقتداء بالأفضل من ذلك بالعجب العجاب فإنه قد استحسن كلام الخطيب ابن نباتة الفارقي والأمير قابوس الخراساني والوزير أبي القاسم المقري والصاحب بن عباد وأبي إسحاق الصابي الذين هم رؤساء الكتابة وأئمة الخطابة من الرسائل والعهود البديعة والخطب الموجزة الرائقة فجرد معانيها من ألفاظها واخترع لها ألفاظاً غير ألفاظها مع زيادة تنميق ومراعاة ترصيف على أتم نظام وهاتان نسختا كتابين الأولى منهما كتب هبا أبو إسحاق الصابي عن عز الدولة بن بويه جواباً عن كتاب وصل إليه عن أخيه عضد الدولة يخبره بمولود ولد له. والثانية عارض بها علي بن حمزة المذكور أبا إسحاق الصابي في ذلك بألفاظ أخرى مع اتحاد المعنى. فأما التي كتب بها أبو إسحاق الصابي عن عز الدولة إلى عضد الدولة فهي: وصل كتاب سيدي الأمير عضد الدولة أطال الله بقاءه بالخبر السار للأولياء الكابت للأعداء في الولد الحبيب الأثير والسيد المقيل الخطير الذي زاد الله به في عددنا وجدد نعمه عندنا وحقق في آمالنا والآمال لنا فأخذ ذلك مني مأخذ الاغتباط ونزل عندي أعلى منازل الابتهاج وسألت الله تعالى أن يختصه بالبقاء الطويل والعمر المديد وأن يجعل مواهبه لسيدي الأمير نامية بنموه ناشية بنشوه: ليكون كل يوم من أيامه ممداً له من فضله عادة وواعداً له من غده بزيادة ومحدثاً لديه منحة تتضاعف إلى ما سبق من أمثالها ومجدداً له عازمة تتلو ما سلف من أشكالها وأن يريه إياه غرة في مكانه ويهب له بعد الأكابر النجباء السابقين أتراباً من الإخوة لاحقين تابع منهم من مباراة المتبوع وشافع من مجاراة المشفوع في فائدة تقدم بمقدمه وعائدة ترد بمورده ويحرس هذه السعادة من خلل يعترض اتصالها أو فترة يخترم زمانها أو نائبة تشوبها أو تنغصها أو رزية تثلمها أو تنقصها. إلا أنها الأمد الأبعد والعمر الأطول ثم تفضي به غضارة هذه الدار الدنيا إلى قرارة الدار الأخرى مبوأ أوفى مراتبها مبلغاً أقصى مبالغها حالاً أرفع درجاتها مختصاً بأنعمها مبتهجاً بها مستثمراً ما قدمه لصالح سعيه ومستوفياً ما أفاءه عليه متجره الرابح وآثاره البادية لإنفاقه في أيام نظري التي استشعرت نوراً من سنائه وآنست جمالاً من بهائه وثابت مصالحها ببركته وتوافت خيراتها بيمنه واعتقدت أن السعادات طالعة علي بمطلعه وأسبابها ناجمة إلي بمنجمه فلو استطعت أن أكون مكان كتابي هذا مشافهاً بالتهنئة لسيدي الأمير عضد الدولة أطال الله بقاءه ومقبلاً لبساطه لكنت أولى عبيده بالمسارعة إلى بابه وأحقهم بالمبادرة إلى فنائه: لأنني معوق عن تلك الخدمة بخدمة أنافيها من قبله ومقيم بهذه الحضرة إقامة المتصرفين تحت أمره وقد وفيت نعمة الله تعالى الواهب منه أيده الله تعالى ما يقر عين الولي ويقذي عين العدو ويطرفها حقها من الشكر الممتري للمقام والمزيد بدوام العز والتأييد وأسأل الله تعالى أن يجعل ذلك مقبولاً عنه ونافعاً له وعائداً عليه وعلينا بطول العمر وبباهي النشو والنماء وأن يعرف سيدي الأمير عضد الدولة أيده الله بركة مولده ويمن مورده ويبقيه حتى يراه والأمراء أفضل ما رشحته له أمانيه وأعلى ما انبسطت آماله فيه بقدرته. وأنا أتوقع الكتاب بما يقرر عليه اسم الأمير السيد وكنيته أعلاها الله تعالى لأستأنف إقامة الرسم في مكاتبته وتأدية الفرض في خدمته وسيدي عضد الدولة أطال الله بقاءه أعلى عيناً فيما يراه بمطالعتي بذلك وبكل ما يوليه الله من مستأنف نعمه ويجدده له في حادث مواهبه له لآخذ بحظي منهما فأضرب بسهمي فيهما وتصريفي بين أمره ونهيه وتشريفي بعوارض خدمته إن شاء الله تعالى. وأما التي عارضها بها علي بن حمزة بن طلحة فهي: وصلني كتاب سيدي الأمير عضد الدولة أطال الله بقاءه بالبشرى المبتسمة عن ناجذ السعد الآنف والنعمى المنتسمة عن صبا المجد المتضاعف التي أشرقت مطالع الإقبال عن محياها وتضوعت نفحات درك الآمال عن رياها وصدقت من الأولياء ظنونهم المرتقبة وانتخبت من الأعداء عيونهم المرتعبة بالولد النجيب الخطير الأمير الحبيب الظهير المجيد المعمر المقيل المؤمر الذي كثر الله به عددنا معشر أهليه وعددنا بما نرتقبه منه ونراعيه وهو تكرمة تحقق ظنوناً بماله نرتجيه وما نؤمله من السعادة المقبلة فيه فاستفزتني غبطة استحوذت على جوامع لبي وتملكتني بهجة ثوت في مراجع قلبي وطفقت مبتهلاً وتضرعت متوسلاً إلى ذي العرش المجيد الفعال لما يريد أن يجمع له بين العمر المديد والجد السعيد كفاء ما قرن له بين المجد العتيد و الملك الوطيد وأن يجعل تحيات أياديه لدى سيدي الأمير متضاعفة الأعداد مترادفة الأمداد مبشرة بنجباء الأولاد يربى آنفها على السالف بسعده ويلهي عن تالدها الطارف بعلو مجده وأن يريه إياه على مفرق دولته وغرة تشرق في جبهة ذريته وناهضاً بأعباء مملكته وقائماً بنصرة دعوته حتى يرى أولاد أولاده جدوداً مظفراً سعيداً وأن يتبعه أتراباً من الإخوة النجباء الأماجد السعداء متجارين في حلبات علو الهمم متبارين في مزيات إيلاء النعم ليزايد ازدحام وفود السعادة في عتبات بابه ويترافد اقتحام جنود الإقبال رحيب جنابه ويحرس لديه ما خوله من مواهبه وأياديه ويحفظ عليه ما به فضله من مناقبه ومعاليه ويقيه من كيد عاند إذا عند ويحميه من شر حاسد إذا حسد وأن يؤتيه عائدتي العاجلة والعقبى ويحظيه بسعادتي الآخرة والأولى وأن يجعل سعيه في مصالح عباده مشكوراً ونظره في مناحج بلاده مبروراً وأن يغادر متاجر بره وتقواه رابحه كما جعل خواطر سره ونجواه صالحه فرياض الأيام بعدله نواضر ونواظر الأنام إلى فضله نواظر ومصالحهم بيمينه وبركته موافيه وبراعتهم بهمته وسعادته مواتيه وإني لأعتقد أن مقيلي في أفياء السعادة ونيلي كل مأمول وإرادة وتوفيقي فيما أوفق فيه بما أعتمده وآتيه جدول من تيار فضله وسعادته منوط العرى بسمو همته وأود أن أكون عوضاً عن كتابي هذا إليه وخطابي الوارد آنفاً عليه لأسعد بلألاء غرته وأحظى بالأشرف من خدمته أدام الله أيام دولته: لأني أجدر عبيده بالمهاجرة إلى بابه وأولى خدمه بالمبادرة إلى جنابه ولولا تحملي أعباء خدمته التي طوقنيها وكوني نائبه لدى هذه الحضرة فيها ثاوياً بأوامره ونواهيه في مغانيها لما شق غباري من أم ذراه ولا اتبع آثاري مسرع رام لقياه. ولقد قمت بالواجب علي للنعمة. أيده الله المنزلة إلي والموهبة بمقدمه كلأه الله المكملة لدي التي أضحت بها نواجذ المخلص ضاحكة مستبشرة وأمست بسببها وجوه الكاشحين عابسة مستبسرة: من وافر شكر يمتري المزيد وعتق الإماء والعبيد والصدقة الدارة على التأبيد وأنا أرغب إلى الله تعالى رغبة متوسل إليه آمل بما لديه أن يجعل بركة كل خير درت به أخلافه وكرت لأجله أحلافه عائدة عليه وميامنه ثائبة إليه مؤذنة بتعميره ملكاً حلاحلاً لا يلقى مؤملوه ليم فضله ساحلاً وأن يمد لسيدي عضد الدولة في البقاء ويمتعه به وبسابقيه من إخوته الأمراء ويريه فيهم وفيه قصوى ما تسمو إليه هممه وأمانيه. وإني لمتوكف لما يصلني من كتاب ينبئ عن اسمه الكريم وكنيته لأعتمد ما أستوجبه في خدمته ومكاتبته وسيدي عضد الدولة أدام الله علاه ولي ما يستصوبه ويراه: من الأمر بمكاتبتي بذلك وبمتجددات النعم وأوانف المواهب الغالية القيم لآخذ وافر سهمي من السرور وجزيل قسمي من الجذل والحبور وتصريفي بين أمره الممتثل المطاع ونهيه المقابل بالإتباع إن شاء الله تعالى. الاستكثار من حفظ الأشعار الرائقة خصوصاً أشعار العرب وما توفرت دواعي العلماء بها على اختياره: كالحماسة والمفضليات والأصمعيات وديوان هذيل وما أشبه ذلك وفهم معانيها واستكشاف غوامضها والتوفر على مطالعة شروحها ويلتحق بذلك شعر المولدين من العب وهم الذين كانوا في أول الإسلام. كجرير والفرزدق والأخطل وغيرهم وكذلك حفظ جانب جيد من شعر المفلقين من المحدثين: كأبي تمام ومسلم بن الوليد والبحتري وابن الرومي والمتنبي ونحوهم. وفيه مقصدان المقصد الأول في بيان احتياج الكاتب إلى ذلك أما شعر العرب والمولدين فلما في ذلك من غزارة المواد وصحة الاستشهاد وكثرة النقل وصقل مرآة العقل وانتزاع الأمثال والاحتذاء في اختراع المعاني على أصح مثال والإطلاع على أصول اللغة وشواهدها والاضطلاع من نوادر العربية وشواردها. وقد كان الصدر الأول يعتنون بذلك غاية الاعتناء: قال محمد بن سلام عن بعض مشايخه كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا يكاد يعرض له أمر إلا أنشد فيه بيت شعر. وذكر صاحب الريحان والريعان عن سعيد بن المسيب أنه قال: كان أبو بكر وعمر وعلي يجيدون الشعر وعلي أشعر الثلاثة. قال: وكان عمر بن الخطاب يقول أفضل صناعات الرجل الأبيات من الشعر يقدمها بين يدي حاجته ويستعطف بها الكريم ويستنزل بها اللئيم. وقد ذكر عن الشافعي رضي الله عنه أو غيره من بعض الأئمة الأربعة: أنه كان يحفظ ديوان هذيل وأما قول الشافعي رضي الله عنه: ولولا الشعر بالعلماء يزري لكنت اليوم أشعر من لبيد فإنه يريد من صرف همته إلى الشعر بحيث صار شأنه ودينه وهو المعني بقوله صلى الله عليه وسلم " لأن يملأ أحدكم جوفه قيحاً خير من أن يملأه شعراً " أي أراد صرف همته إليه حتى يملأ جوفه منه. وقد قال صلى الله عليه وسلم " إن من الشعر لحكمة ". وكان عمر رضي الله عنه يسمع البيت يعجبه فيكرره مرات كما ذكره الجاحظ وغيره. وقد ذكر أبو البركات بن الأنباري في كتاب طبقات الأدباء في ترجمة أبي جعفر أحمد بن إسحاق البهلول بن حسان الأنباري: أنه كان فقيهاً عالماً واسع الأدب وتقلد القضاء لعدة من الخلفاء. ثم حكى عن ولده أبي طالب أنه قال كنت مع والدي في جنازة بعض أهل بغداد من وجوه الناس والى جانبه أبو جعفر الطبري فأخذ أبي يعظ صاحب المصيبة ويسليه وينشده أشعاراً ويروي له أخباراً فداخله الطبري في ذلك ثم اتسع الأمر بينهما في المذاكرة وخرجا إلى فنون كثيرة من الأدب والعلم استحسنها الحاضرون وأعجبوا بها وتعالى النهار وافترقنا فقال لي أبي يا بني من هذا الشيخ الذي داخلنا في المذاكرة فقلت: يا سيدي كأنك لم تعرفه فقال لا فقلت: هذا أبو جعفر الطبري فقال إنا لله! ما أحسنت عشرتي معه فقلت كيف يا سيدي قال: ألا نبهتني في الحال فكنت أذاكره بغير تلك المذاكرة هذا رجل مشهور بالحفظ والاتساع في صنوف العلوم ما ذاكرته بحسبها ومضت على ذلك مدة فحضرنا في حق آخر وجلسنا وإذا بالطبري قد دخل إلى الحق. فقلت أيها القاضي هذا أبو جعفر الطبري قد جاء مقبلاً فأومأ إليه بالجلوس عنده فعدل إليه وجلس إلى جانبه وأخذ يجاريه فكلما جاء إلى قصيدة ذكر الطبري منها أبياتاً قال أبي: هاتها يا أبا جعفر! إلى آخرها فيتلعثم الطبري فينشدها أبي إلى آخرها وكلما ذكر شيئاً من السير قال أبي هذا كان في قصة فلان ويوم بني فلان مر يا أبا جعفر فيه فربما مر فيه وربما تلعثم فيمر أبي في جميعه. ثم قمنا فقال لي أبي: الآن شفيت صدري: وأما أشعار المحدثين فللطف مأخذهم ودوران الصناعة في كلامهم ودقة توليد المعاني في أشعارهم وقرب أسلوبهم من أسلوب الخطابة والكتابة وخصوصاً المتنبي الذي كأنه ينطق عن ألسنة الناس في محاوراتهم وكثر الاستشهاد بشعره حتى قل من يجهله فإذا أكثر المترشح للكتابة من حفظ الأشعار وتدبر معانيها ساقه الكلام إلى إبراز ذخيرة ما في حفظه منها فاستعملها في محلها ووضعها في أماكنها على حسب ما يقتضيه الحال في إيرادها واقتباس معانيها.
|